للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

أقاد إلى السجون بغير جُرمٍ ... كأني بعض عمال الخراج

ولو معهم حُبستُ لكان سهلاً ... ولكني حبست مع الدجاج

وقد كانت تخبرني ذنوبي ... بأني من عقابك غيرُ ناجي

على أني وإن لاقيت شراً ... لخيرك بعد ذاك الشر راجي

فدعا به وقال: أين حبست يا أبا دلامة؟ قال: مع الدجاج. قال: فما كنت تصنع؟ قال: أقوقي معهن حتى أصبحت. فضحك وخلى سبيله وأمر له بجائزة. فلما خرج قال له الربيع: أنه شرب الخمر يا أمير المؤمنين. أما سمعت قوله (وقد طبخت بنار الله) - يعني الشمس - فأمر برده ثم قال: يا خبيث شربت الخمر؟ قال: لا. قال: أفلم تقل (طبخت بنار الله) تعني الشمس؟ قال: لا والله ما عنيت إلا نار الله الموقدة التي تطلع على فؤاد الربيع. فضحك المنصور وقال: خذها يا ربيع ولا تعاود التعرض.

فقد رأيت - في هذه القصة - أن المنصور أراد أن يطبق حكم الشرع على أبي دلامة، فعزره على شرب الخمر بالحبس، ولكنه لم يشأ أن يحبسه مع الناس، وأنما ابتكر له سجناً مع الدجاج لعله يسمع منه كلمة تضحكه: فالخليفة كان يتنازعه عاملان: عامل الدين الذي يأمره بمساواة نديمه بغيره من الناس في كل حكم شرعي، وعامل المنادمة الذي يدخل السرور عليه كلما أطلق العنان لأبي دلامة: ولعل العامل الثاني كان أغلب على المنصور مع مثل هذا الظريف.

وإذا كنا قد أطلنا الحديث على نوادر أبي دلامة مع المنصور فلأنه حضر خلافته كلها - وقد دامت اثنتين وعشرين سنة - وكان مقرباً منه، مكرماً لديه. حتى إذا توفي أبو جعفر وبويع بالخلافة من بعده لابنه المهدي ثم علم أبو دلامة بقدومه من الري سارع إليه فورد عليه بغداد وأنشده:

إني حلفت لئن رأيتك سالماً ... بقرى العراق وأنت ذو وفْر

لتصلينَ على النبي محمَد ... ولتملأن دراهماً حجري!

فقال: صلى الله عليه وسلم، وأما الدراهم فلا. فقال له: أنت أكرم من أن تفرق بينهما ثم تختار أسهلهما. فأمر بأن تملأ حجره دراهم.

وقد لا تحمد لأبي دلامة مسارعته إلى المهدي - بعد وفاة أبيه - وإنشاده هذين البيتين

<<  <  ج:
ص:  >  >>