للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

اللذين لم يزد فيهما على أن طلب المال بأسلوب طريف، وترى أن قد كان جديراً به أن يعزيه بوفاة أبيه ويهنئه بالخلافة ثم يؤخر مسألته إلى وقت أكثر ملائمة ومناسبة: لكنك تعذر أبا دلامة متى علمت أنه ورد على المهدي بعد مضي زمن غير قصير على وفاة المنصور فأعفى نفسه من التذكير بما طوته الأيام لئلا يكون كمن ينكأ الجرح بعد اندماله؛ ثم إن له من حب المهدي ما يشفع له، فكثيراً ما كان يداعبه - وأحياناً ما كان يعذبه - في حياة أبيه؛ وقد قالوا - وصدقوا -: من لم يوقرك صغيراً لا يوقرك كبيراً.

فأبو دلامة أراد أن يذكر المهدي حين قدم عليه لأول مرة بما كان بينهما في حياة أبيه من دعابة ومزاح ليحتفظ عنده بما كان له من مكانة، وليستشعر بنفسه مدى موقف الخليفة الجديد من ظرفه وهزله، فإن غيرته الخلافة فعبس في وجهه لزم صاحبنا الصمت ووجد الخير فيه، وإن بقي على مرحه وأنسه به زاده من المداعبة ألواناً وظل نديمه الظريف.

ولتهنأ يا أبا دلامة، فما قطب لك المهدي وجهاً، ولا غل عنك يداً، ولا رد لك طلباً، بل ملأ حجرك دراهم منذ أول يوم قدمت فيه!

وكان هم أبي دلامة الأكبر أن يكسب بمنادمته كثيراً من المال: ويأخذه في قصر الخليفة منه ومن أقربائه وممن يتردد على الخليفة من الأمراء والوزراء، بل كان يأخذه من الموالي أنفسهم؛ فإن أمسك أحد منهم يده عنه تنادر به ليفضحه!

دخل على المهدي وبين يديه سلمة الوصيف واقفاً، فقال: إني أهديت إليك يا أمير مهراً ليس لأحد مثله، فإن رأيت أن تشرفني بقبوله. فأمره بإدخاله إليه. فخرج وأدخل إليه دابته التي كانت تحته، فإذا به برذون محطم أعجف هرم. فقال له المهدي: أي شيء هذا ويلك! ألم تزعم أنه مهر؟ فقال له: أو ليس هذا سلمة الوصيف بين يديك تسميه الوصيف وله ثمانون سنة، وهو عندك وصيف! فإن كان سلمة وصيفاً فهذا مهر! فجعل سلمة يشتمه والمهدي يضحك. ثم قال لسلمة: ويلك! إن لهذه منه أخوات، وإن أتى بها في محفل فضحك. فقال أبو دلامة: والله لأفضحنه يا أمير المؤمنين؛ فليس مواليك أحد إلا وقد وصلني غيره، فإني ما شربت له الماء قط قال: فقد حكمت عليه أن يشتري نفسه منك بألف درهم حتى يتخلص من يدك. قال سلمة: قد فعلت على أن لا يعاود. فقال المهدي لأبي دلامة: ما ترى؟ قال: افعل، فلولا أني ما أخذت منه شيئاً قط ما فعلت منه مثل هذه فمضى

<<  <  ج:
ص:  >  >>