للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

القطار، فصعدت معه إليه، وقعدت تكلمه كما كانت تكلمه كل يوم، تتحدث بتوافه الأمور، ولو علمت أن هذا آخر لقاء ما كان ذاك حديثها؛ ثم صفر القطار فشدت على يده وعانقته عناقاً خفيفاً على استحياء من الناس ونزلت، فوقفت تنظر إليه وهو في شباكه، والقطار يبتعد. . ولكنها لا تزال تعيش بقربه لم تذق بعد طعم الهجر ولم تعرفه، حتى إذا اختفى عن ناظريها ورأت نفسها منفردة، صحت كما يصحو النائم من الحلم الممتع ليس في يده شيء منه، وتبدلت حياتها السعيدة بالوصال شقاء وألماً، وانطفأ النور الذي كان يهديها السبيل، وكانت المحطة هي خاتمة سعادتها، وهي فاتحة شقائها، فهي تحج إليها كل يوم، تقوم حيث قام الحبيب آخر مرة، وتشم عبقه وتتحسس موطئ أقدامه وتبحث عنه حيث تركته في شباك القطار، وتذكر كل حركة من حركاته، وكلمة من كلماته، حتى صار ذلك مدار أفكارها، وعماد حياتها، ولكنها كانت تكره المحطة، لأنها هي سبب الفراق. . .

وما في الدنيا مكان تستقر فيه محجبات العواطف، وتبرز مكنونات الضمائر كالمحطة، وما في الأمكنة ما هو احفل بالذكريات منها، ففي كل إصبع منها ذكرى عزيزة على قلب، وقطعة من حياة إنسان.

هنالك تبصر المختلف من ألوان الحياة قد ائتلف في هذه الصورة المعروضة، والشتيت قد اجتمع، وهنالك أمام الحاجز الحديدي ذي الأبواب المؤدية إلى الأرصفة، لا يفصل باباً عن باب، ورصيفاً عن رصيف إلا جدار. . . ترى جموع الناس في مد وجزر، كما تضرب أمواج البحر صخرة الشاطئ، يدخل الرجل من الباب فيصل منه إلى البلد الطيب، ويدخل الآخر من الباب إلى جنبه فيحمله إلى القرية المقفرة، وهذا الرصيف فيه لقاء الأحبة، وهذا فيه الهجر والبعاد، وكذلك الحظوظ في الحياة تتقارب بداياتها وتتباعد نهاياتها:

يتردد الطالب إذ يخرج من المدرسة بين طريقين لا يفصل بينهما إلا القليل، ولكن هذا يمشي إلى الجنة وهذا إلى النار، ويتردد التاجر بين أن يشتري البضاعة أو يدعها، وما يتردد إلا بين الخسران والضياع والربح واليسار. . .

دخل من باب وخرج من باب، ولكن المحطة لم تنظر إليه. فقد رأت من الناس وشاهدت من الأحداث، وأبصرت من القبل والدموع، ومن المسرات والأحزان، ما جعلها تمل، فأغمضت عينيها؛ وتركت هذا السيل البشري يجري على هواه يحمل معه ما شاء من لذاته

<<  <  ج:
ص:  >  >>