دخل شابا في العشرين متوقدا حماسة، يفور دمه ويتوثب يريد أن يبلغ الذروة بقفزة واحدة، وخرج شيخا في سن الشباب لا يفور دمه ولا يتوثب، ولا يريد أن يبلغ الذروة ولا يفكر فيها. لا يفكر إلا في شيء واحد هو أن يرى نفسه نائما على صفحة النسيم، مرخى الأعصاب، مغمض العينين، لا يصنع شيئا، ولا يعمل فكره في شيء حتى. . . حتى يبلغ ساحل الموت.
دخل يحب الشهرة ويطمع فيها، يريد أن يعرف الناس ويعرفوه، وخرج زاهدا في الشهرة، خائفا من تكاليفها، يفزع من لقاء الناس لا يريد أن يعرف أحدا ولا يعرفه أحد.
دخل المحطة يستقبل الشام، يدفعه الشوق إليها، والغرام بها، يستقبلها ببسمة تبدو من خلال دموع الفرح، كما تبدو شمس نيسان من خلال الغمام، وترك من أجلها مقعده في دار العلوم، ومستقبله في مصر وخرج هاربا من دمشق يريد أن يبتعد عنها حتى لا يأسى على ما يرى فيها، وما يكاد يرى فيها إلا ما يبعث الأسى. . .
كان طالبا في المدرسة همه الارتقاء من فصل إلى آخر، وغايته الامتحان يريد النجاح فيه، فصار موظفا لم تعد لديه غاية يسعى إليها، ولا هم يفكر فيه فتشابهت أيامه، وتماثلت لياليه، وخلت من كل جديد، يصبح خاملا متكاسلا لأنه لا يرقب في نهاره شيئا، ويمسي متكاسلا خاملا لأنه لا ينتظر في ليله شيئاً، ولم يعد يجد ما يعمله إلا أن يشغل نفسه ساعة كل أسبوع بالكتابة للرسالة.
لقد كان إنسانا يحس ويشعر، وكان له عقل يفكر ويدرس، وقلب يحب ويصبو، فعودته الوظيفة الكسل، وسهلت له العيش، حتى خلا رأسه من الفكر، وقلبه من الحب، ويده من الشغل، وصار آلة (تعدد أياما وتقبض راتباً)، ولكنها لا تستبقي من هذا الراتب شيئاً، فالكيس أيضاً خال من المال.
انه لا يشكو المرض الفقر ولا المرض ولا التعب، ولكنه يشكو البطالة، وأن قواه معطلة، وأن عقله صدئ، وأنه كالجواد الأصيل المصفد بالأغلال الذي لا يستطيع أن يتحرك.
هذا هو الرجل الذي خرج من المحطة يوم الخميس الماضي. إنه مدين بحياته للرسالة؛ لا لأنها تنشر له وتذيع اسمه، كلا، فهذا أمر لم يعد له عنده نفع، بل لأنها هي التي تشعره بأنه