ولما كان المشتغلون بالعلم شديدي الاعتزاز إلى (المشائين) من اليونانيين كرهنا شق العصا ومخالفة الجمهور فانحزنا إليهم وتعصبنا للمشائين إذ كانوا أولى فرقهم بالتعصب لهم - وأكملنا ما أرادوه وقصروا فيه ولم يبلغوا أربهم منه وأغضينا عما تخبطوا فيه، وجعلنا له وجهاً ومخرجاً ونحن بدخلته شاعرون وعلى ظله واقفون. فإن جاهرنا بمخالفتهم ففي الشيء الذي لم يكن الصبر عليه، وأما الكثير فقد غطيناه بأغطية التغافل. فمن جملة ذلك ما كرهنا أن يقف الجهال على مخالفة ما هو عندهم من الشهرة بحيث لا يشكون فيه ويشكون في النهار الواضح. وبعضه قد كان من الدقة بحيث تعمش عنه عيون هؤلاء الذين في العصر - فقد بلينا برفقة منهم عاري الفهم كأنهم خُشب مسندة يرون التعمق في النظرة بدعة، ومخالفة المشهور ضلالة كأنهم الحنابلة في كتب الحديث لو وجدنا منهم رشيداً أثبتناه بما حققناه - فكنا نفعهم به، وربما تسنى لهم الإيغال في معناه فعوضونا منفعة استبدوا بالتنفير عنها.
ومن جملة ما ضننا بإعلانه عابرين عليه - حق مغفول عنه يشار إليه فلا يتلقى إلا بالتعصب. فلذلك جرينا في كثير مما في نحن خبراء ببجدته مجرى المساعدة دون المحاقة. لو كان ما انكشف لنا أول ما انصببنا إلى هذا الشأن لم نبد فيه مراجعات منا لأنفسنا ومعاودات من نظرنا - لما تبينا فيه رأياً ولا ختلط علينا الرأي وسرى في عقائدنا الشك، وقلنا لعل وعسى. لكنكم أصحابنا تعلمون حالنا في أول أمرنا وآخره وطول المدة التي بين حكمنا الأول والثاني، وإذا وجدنا صورتنا هذه فبالأحرى أن نثق بأكثر ما قضيناه وحكمنا به واستدركناه، ولاسيما في الأشياء التي هي الأغراض الكبرى والغايات القصوى التي اعتبرناها وتعقبناها مئين من المرات. ولما كانت الصورة هذه والقضية على هذه الجملة، أحببنا أن نجمع كتاباً يحتوي على أمهات العلم الحق الذي استنبله من نظر كثيراً وفكر ملياً، ولم يكن من جودة الحدس بعيداً واجتهد في التعصب لكثير فيما يخالفه الحق فوجد لتعصبه وما يقوله وفاقاً عند الجماعة غير نفسه، ولا أحق بالإصغاء إليه من التعصب لطائفة إذا أخذ يصدق عليهم فإنه لا ينجيهم من العيوب إلا الصدق.
وما جمعنا هذا الكتاب لنظهره إلا لأنفسنا - أعني الذين يقومون منا مقام أنفسنا - وأما العامة من مزاولي هذا الشأن فقد أعطيناهم في (كتاب الشفاء) ما هو كثير لهم وفوق