للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إلا التسجيل والإعلان. ولا شك في أن الحضارات الأولى قد أخذت تموت وتتهاوى قبل أن يجهز عليها المغيرون من أبناء القبائل العارمة، ولا أدل على موتها من ضمور ملكة الخلق والابتكار فيها.

أما اليوم فالأمر بيننا مختلف والاختراع بيننا أروج وأكثر مما كان في أيام ازدهار الحضارات البائدة، وما تطلع الشمس صباحاً واحداً في أنحاء العالم المتمدن على غير كتاب جديد أو ثمرة فنية جديدة أو اختراع طريف أو تنويع وتحسين في اختراع قديم. فالبنية الآدمية بما اشتملت عليه من قدرة على التفكير أو قدرة على الشعور أو قدرة على الابتكار بنية سليمة مهيأة لطول الحياة ومغالبة الأحداث وتعويض المفقود.

هذا مع اختلاف آخر لا يقل في أثره ولا دلالته عن ذلك الاختلاف، وهو أن الغالبين والمغلوبين في أيامنا سوف يكونون من أبناء الحضارة الحديثة المشاركين في علومها وصناعاتها وأدواتها وآلاتها، فمن كتب له النصر من المحاربين في المعمعة القادمة سوف يضطلع بأمانة الحضارة وحده إذا قدرنا أن المهزومين يعجزون كل العجز عن متابعة الطريق واستئناف العمل النافع؛ وسوف يستبقي من علومنا وأفكارنا ما يصلح أن يكون خميرة يأكل من زادها أبناء الأجيال المقبلة، ثم يفتنون فيها ويزيدون عليها.

هذا وذاك مع اختلاف ثالث لا يقل عن ذينك الاختلافين في تغليب دواعي الأمل على دواعي القنوط، وذاك أن معارف الحضارة الحديثة لا تشبه معارف الحضارات الأولى في جواز الفناء عليها. فقد كانت معارف المصريين واليونان والرومان الأقدمين أشبه شيء في جملتها بحرفة الصانع القديم الذي يصون سره ويحمله معه إلى قبره، أو كانت بمثابة الخبرة الشخصية التي لا تقبل التعميم ولا اتصال النسق بين حاضرها وماضيها، لأنها مسائل اجتهادية يكاد يبدأها كل عامل من البداية ولا يدعمها إلى أساس يبني عليه من يخلفه من أبناء الصناعة.

أما حضارة العصر الحديث فهي حضارة قائمة على أساس العلم الشائع المقرر الذي جعل لكل اختراع قاعدة ولكل صناعة أصلاً ولكل مرحلة من مراحل التعليم مسافة وحدًّا؛ فلو فنيت ثلاثة أرباع المصنوعات الحديثة من الدنيا لكان الربع الباقي مشتملاً على جميع قواعدها وأصولها ومراحل التعليم والابتكار فيها؛ ومن البعيد عن التصور أن تعمد الحرب

<<  <  ج:
ص:  >  >>