إلى عناصر العلم المتفرقة فتجمعها كلها إلى بقعة واحدة وترسل عليها صيباً من القذائف الناسفة فتمحوها محواً ولا تذر منها بقية للتجديد والترميم.
ذلك بعيد عن التصور، ولا خوف من اتجاه النية إليه أو اشتمال الطاقة على تنفيذه لو جاز أن يداخل النيات على أبعد الفروض.
نعم إن هناك خطراً أخطر على الحضارة من تدمير عناصر العلم بالقذائف الناسفة والآلات الجهنمية التي هي نفسها مادة من مواد العلم وجزء من أجزاء الصناعة.
هناك خطر على الحضارة أخطر من القذائف والآلات الجهنمية وهو إفساد الطبائع ومسخ العقول وتلويث الأخلاق وتعويد الناس أن يسخروا بكل نبيل جليل وأن يقنعوا من الدنيا بمعيشة البهم ولذائذ الحيوان.
فلو شاعت هذه الآفة - بل هذا الوباء - بعد الحرب المقبلة لكان بقاء العلوم والصناعات وزوالها على حد سواء، ولكانت الحضارة شيئاً لا يستحق الحرص عليه ولا الأسى لفقده ولا التفكير في استبقائه، ولبلغت الحرب بالناس أقصى ما نخاف من وبالها المحذور.
ومن خاف هذه العاقبة فله عذره الواضح مما نراه من تهالك على المتاع الزائل وتهافت على الشهوات الخسيسة وتهافت على المثل العليا والأخلاق الفاضلة والمطالب التي تتجاوز ساعتها أو يومها أو عمر طالبها على أبعد احتمال.
الاشتراكيون لا يؤمنون بغير الخبز، والفاشيون لا يؤمنون بخير الخنجر، والذين يأنفون من مذاهب أولئك ومن مذهب هؤلاء حيارى لا يهتدون إلى قرار؛ ومتى أصبحت الغاية المنشودة ما كان فيه آباؤنا وأجدادنا منذ ألوف السنين فنحن راجعون إلى وراء مقبلون على هبوط يشبه الفناء.
إلا أن الأفق لا يخلو في هذه الظلمة أيضاً من بارقة بعيدة يوشك أن يستفيض منها ضياء شامل.
فكلما شاعت اللذت كذلك شاعت السآمة من اللذات، وشاعت النزعة إلى التبديل، وتسرب القلق إلى الضمائر، فليست هي في حالة أستقرار، ولكنها في حالة تحفز وانتظار.
ويخيل إلينا أن الدنيا تتجه إلى تفكير جديد في القرن العشرين يشبه التفكير الجديد عند الانتقال من طور العقائد التقليدية إلى طور العقائد بالبحث والاجتهاد، أو يشبه التفكير