للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

بصره ذات اليمين وذات الشمال، ويُعد نفسه مرة ثانية لتمثيل الدور نفسه إذا أحوجه الأمر.

وفكرت ملياً فيما شهدت وطفقت أسائل نفسي: أنحن هنا أمام ظاهرة خاصة من ظواهر الحياة قاصرة على الكلاب وخلافها من ذوات الظفر والناب، أم نحن أمام ظاهرة عامة شاملة من ظواهر الحياة تشمل الإنسان والحيوان جميعاً ويخضع كافة الأحياء لحكمها وقيودها؟

ولم يطل أمد الهجس والارتياب، وأيقنت بعد القليل من التدبر أنه حالة عامة شاملة كأعم وأشمل ما تكونه حال من أحوال الحياة وظواهرها.

وتسأل: ما تلك الظاهرة، وما طبيعتها؟ ولا نطيل فهي مما وصفنا ورأيت ما يمكن أن ندعوه (توكيد الذات) وإبراز الشخصية. فكلبنا المعتدي الأول لما هاجم الهرّ بلا عداوة سابقة أو حقد قديم، إنما فعلها ليثبت من قدرة نفسه وحدة أنيابه وقوة عضله، وليؤكد لنفسه أنه ذو غلبة وبطش، ومثله في ذلك الكلاب الأخرى، وعليه لما رأت الهر يتخاذل ويتنازل لها جميعاً عن كل حق من حقوق توكيد الذات غادرته ولم تؤذه.

وأنت ترى مما أثبتنا هنا من عمل الكلاب أن هذا الدافع إلى توكيد الذات في الحيوان دافع فطري غريزي لا يخرج بمجمله عن معنى القتال المباشر الذي تمارسه جميع الحيوانات على اختلاف طفيف بينها في أساليبه وطرائقه.

أم في الإنسان فيتخذ هذا الدافع من توكيد الذات وتقريرها شتى المظاهر ومختلف الأشكال والصور، ولن تخطئ مظاهره - في لون من ألوانه - في الطفل واليافع والشاب والشيخ جميعاً.

والطفل يبدأ سلوكه يتأثر بهذا الدافع من العام الأول في عمره، وكلنا يعرف جيداً ما هي الأساليب التي يصطنعها الصغار لينبهوا إليهم الكبار ويستجلبوا رضاهم وتقديرهم، ومن هنا كان الفهم الصحيح للطفولة يوجب على المربين الانتباه الشديد لهذا الدافع والانتفاع به في توجيه الصغار توجيهاً صالحاً وتحريضهم على الإجادة والتبريز في حدود إمكانهم وكفاياتهم. وفي الحق ليس أقتل لروح الطموح في الطفل ولا أدعى لفشله من أن يغفل الآباء والمربون هذا الطور الدقيق في حياة الطفل ويتركوه وشأنه بلا تشجيع ولا استحسان حيث يستحقان، أو يعكسوا الأمر عليه ويملئوا سمعه بالنقد ويقابلوا حماسته بالفتور وثقته

<<  <  ج:
ص:  >  >>