وهو صحفي، أو شاعراً وهو عروضي، أو ناقداً وهو هجاء، أو قصصياً وهو حكاء، أو وصافاً وهو محلل
وللخيال إذا امتد سراب يخدع الظمآن إلى المجد والشهرة؛ فقد يستهوي الناشئ وميض الهالة من حول العبقرية الفنانة فيسول له الغرور أن يقرض الشعر، أو يقص القصص، أو يدير الحوار، أو ينشئ المقالة، فينبهر في أول الشوط وينبت في بداية الطريق
قد تحب الأدب ككل إنسان؛ ولكن حبك الشيء ليس دليلا على قوة استعدادك له، فقد يكون ذلك من تأثير البيئة وتغرير الخلاط. وربما كانت نقائص المرء أحب خلاله إلى نفسه؛ فالإمام مالك بن أنس دفعته بيئة المدينة اللاهية إلى أن يتتبع في صباه المغنين يأخذ عنهم حتى صرفته أمه عن الغناء إلى الفقه فصار فيه إمام الأئمة
على أن الطبع والقريحة لا يغنيان في البلاغة عن الفن. وربما كان فيهما ذلك الغناء في العصر الجاهلي وصدر الإسلام حين كانت الأهواء صادقة والأخلاق صريحة والحياة بسيطة؛ أما وقد زيف الصادق وشيب الصريح وركب البسيط، فلابد من حذق الصناعة وهدى القواعد لمعالجة ذلك، كالمسايفة، كانت في أول أمرها سهلة يستعمل فيها السائف سيفه كما يستعمل الواكز يده؛ فلما كثرت فيها الحيل وتعددت الوجوه أصبحت فناً له قواعد وأصول لابد أن يراعيها المسايف وإلا هلك. وإذا كانت القواعد هي النتائج التي استنبطتها الأذهان القوية من وسائل الطبيعة وطرقها على طول القرون، فإن الشأن في البلاغة يجب أن يكون هو الشأن في سائر الفنون التي اخترعتها الغريزة وأصلحتها التجربة ورقاها المران
فعلم البيان إذن هو الجزء النظري من فن الإقناع والبلاغة هي الجزء العملي منه: هو ينهج الطرق وهي تسلكها، وهو يعين الوسائل وهي تملكها، وهو يرشد إلى الينبوع وهي تغترف منه
إن القواعد البيانية لم يضعها الواضعون إلا بعد أن رجعوا إلى أصول الأشياء ودرسوا علاقتها بالنفس والحس، وعرفوا نتائج هذه العلائق من الألم واللذة، ثم استخلصوا من تجارب العصور المستنيرة النتائج الصحيحة، ثم صاغوها قواعد وقالوا إنها أمثل الطرق لإحسان العمل دون أن يخضعوا قريحتك لها، ولا أن يسمحوا لهواك بالخروج عنها، فإن