متسماً بالرجولة مثيراً للإعجاب؛ وندر في ذلك العهد شعر المجون والخلاعة ووصف دواعي الرفاهية ومظاهر الحياة الناعمة، بل كان السادة يتبرأون من الانقياد لشهوات الجسم والنفس. ومن روائع آثار ذلك في الأدب قول حاتم الطائي:
وإني لأستحي صديقي أن يرى ... مكان يدي من جانب الزاد أَقرعا
يُخْبرك من شهد الوقيعة أنني ... أغشى الوغى وأعف عند المغنم
وأرى مغانم لو أشاء حويتها ... فيصدني عنها الحيا وتكرمي
وبقيام الدولة العربية دخل العرب في الطور الثاني: طور الحضارة والرفاهية والترف، وتدرجوا في الأخذ بأسباب ذلك مع مرور الزمن حتى أوفوا على الغاية. ولا غرو فقد اجتمع لديهم من أسباب الترف ما لم يكد يجتمع لغيرهم؛ فأن نجاحهم الحربي الفجائي أوقع في أيديهم أغنى بقاع الأرض وأخصبها وأعظمها حضارة وترفاً لعهدهم، وأغدق على كبرائهم ومقاتلتهم فيضاً متلاحقاً من الأموال، وأدخل في حوزتهم شاسع الأملاك، وأقام في خدمتهم الجمَّ الغفيرَ من الموالي؛ وسمحوا هم لشتى الأجناس بمخالطتهم والإقامة بين ظهرانيهم، فجاءت الأمم المقهورة في ميدان الحروب تسلط على الأمة الغالبة ما بذتها فيه من أسباب الرفاهية واللذاذة، وهي التي كانت من قبلُ سببَ سقوط عزيمتها وأدبار دولتها
وكان كل ذلك جديداً على أعين العرب الذين قضوا الأجيال في شظف البادية وتقتيرها، فاندفعوا يصيبون من تلك اللبانات ما حرموه طويلاً، وأغرقوا في استمراء تراث الأمم المغلوبة كما يغرق الوارث الذي طال حرمانه في تبذير ثروة الغنى الراحل. وكأنما تعجل العربُ في تراث كسرى وقيصر ما وعدوه في الدار الآخرة من طيبات؛ ومن ثم ابتنى الخلفاء القصور وحشدوا لتشييدها الصناع من شتى الأجناس، ووفروا بها آنق أسباب الدعة والمتعة، وحشروا فيها الغلمان والقيان، وبالغوا في إعداد الموائد والأسمطة، وأكثروا من الألوان والصحاف، واستمتعوا بالغناء والشراب، ورفلوا في فاخر الثياب، واحتفوا بالمواسم والأعياد والمهرجانات، وأسرفوا في أعراسهم حتى ضربت ببعضها الأمثال، ولم يدعوا متعة من متعات النفس أو لذة من لذات الجسم إلا استاموها