واحتذاهم في ذلك الأمراء والكبراء وكل من أطاقه من عامة الشعب، فانتشرت مجالس الشراب والغناء، وأحكمت أوضاعها وارتقت آدابها، وراحت صناعة المغنين وحذقوا فنهم وجودوه، وراجت تجارة الرقيق ونفقت سوق الجواري، وأُخِذْن بالتثقيف والتهذيب ليجمعن فتنة اللب إلى فتنة النظر، وأولع الناس بالرقة والظرف والكياسة، ونفروا من الخشونة وتندروا بالجلافة والغفلة، واحتفوا بالمواسم يشخصون فيها إلى الرياض أو الأديرة في أرباض المدن، يتنادمون ويتغزلون
وأثر تلك الحياة المترفة جلى في الأدب العربي، بل لعله أكبر فارق يفرق أدب ما بعد الإسلام والحضارة عن أدب الجاهلية، إذ أن الأدباء اهتموا بتصوير مظاهر ذلك الترف كلها، بل كانوا من أشد الناس حرصاً على الانغماس فيه، بل تجمعوا في العواصم طلباً لأسبابه، وكان منهم من صاحبوا الخلفاء والأمراء في مجالس شرابهم وسماعهم وساعات تبذلهم واستمتاعهم، وجلسوا إلى موائدهم وشاركوا في محافلهم ومهرجاناتهم، وكل ذلك ضمنوه مدائحهم لأولئك الحكام؛ وكان شهودهم تلك المشاهد وما يحوكونه فيها من القصائد، من متممات السرور والأنس، ومستلزمات الأبهة والعظمة
ومن ثم يحفل شعر بشار وأبي نواس وأبي تمام والبحتري وابن المعتز وابن الرومي وابن حمديس وكثيرين غيرهم بأوصاف القصور والحدائق والنافورات، وسفائن النزهة وكلاب الصيد، وألوان الطعام والفاكهة والأسمطة، ومجالس الشراب وحذاق المغنين وحسان المغنيات، والمحافل والمواكب، كما امتلأ بالنسيب الذي كان أغلبه نسيباً بالجواري دون الحرائر، والذي امتزج بكثير من الخلاعة والفجور؛ وروي الشعراء في كل ذلك عن ممدوحيهم من الأمراء تارة، وعن أنفسهم تارة أخرى، وصوروا في الحالتين حياة الترف المغرق التي طغى سيلها في عهود العباسيين والفاطميين وخلفاء الأندلس وغيرهم
وقد ظفرت الخمر من بين أسباب الترف هاتيك بالمكانة الأولى في النفوس، وفازت بالحظ الأوفر من حفاوة الشعراء، فكانت معقد السرور ومناط الأنس ورمز الصفاء؛ وتفنن الشعراء في تمجيدها ووصف تأثيرها ووصف مجلسها وساقيها وكأسها، وطلبوا البراعة بالابتكار في تلك الوجوه، وخلعوا العذار واطرحوا التدين في التوفر عليها والتغني بها، وهزئوا باختلاف الفقهاء في تحليل بعض أنواعها وتحريم بعض، وظفرت الخمر في الأدب