العربي بمنزلة لا تبارى في أدب آخر، وسما شأنها حتى زاحمت النسيب على مكانته الموروثة من عهد الجاهلية، فأصبح وصف الخمر كالتشبيب والوقوف بالدمن وسيلة تقليدية من وسائل استهلال القصيد
ومن أجمل الشعر في وصف أسباب الرفاهية تلك، قول ابن الرومي الذي يختمه بتحسره على حرمانه مما يصف، إذ أصبح التلهف على أسباب النعيم ديدن الشعراء، وكانوا من قبل في الطور السابق كما تقدم يتبرأون من الاستسلام للترفُّه والشهوات:
في أمور وفي خمور وسَموُّ ... رٍ وفي قاقُمٍ وفي سنجاب
في حبير منمنم وعبير ... وصحانٍ فسيحة ورحاب
في ميادين يخترقن بساتي ... ن تمس الرؤوسَ بالأهداب
عندهم كل ما اشتهوه من الآ ... لات والأشربات والأشواب
والطروقات والمواكب والول ... دان مثل الشودان الأسراب
والغوالي وعنبر الهند والمس ... ك على الهام واللحى كالخضاب
لم أكن دون مالكي هذه الأش ... ياء لو أنصفَ الزمان المحابي
وقد بلغ من ولع كثير من الشعراء باجتناء ثمار تلك الحياة المترفة الغارقة في اللذات، أن خصصوا أشعارهم لمدح الأمراء بغية أن يُقرَّبوا ويُمنحوا طرفا من ظل تلك النعمة السابغة، ويشاركوا ممدوحيهم في أبهتهم ولذاتهم، وبغية النوال ينفقونه في ارتياد مواطن اللهو التي حفلت بها العواصم، ويبذرونه في مجالس الشراب والغزل يعقدونها في دورهم أو في دور المغنين والنخاسين أو في الحانات والأديرة؛ ومن ثم امتلأ شعرهم بالمدح من جهة، وبوصف الملاهي من جهة أخرى، وراح بشار مثلا يفخر بكلا الأمرين: باقتناص أموال الملوك، وانتهاب سوانح اللذات، قال:
وإني لنهَّاض اليدين إلى العلا ... قروعٌ لأبواب الهمام المتوج
وقال:
قد عشت بين الريحان والراح وال ... مزهر في ظل مجلس حسن
وبعد طور الثروة والترف هذا جاء الطور الثالث طور الفقر والانحلال، حين استنزفت موارد البلاد، وعظمت مفاسد الحكام، وخمدت العزائم من جراء الانهماك في ذلك الترف،