وفدحت الضرائب الأهلين، وتنازع الأمراء والولاة. وقد كان جانب كبير من الشعب يشقى ويألم في عهد الرخاء والترف السالف؛ أما في هذا العهد فعم الشقاء، وانتشر الخراب، وكسدت الصناعات، وظهر القحط وتتابعت المجاعات
ولم يبق معتصما بربوة الترف فوق سيل هذا البؤس إلا القليل ومنهم الأمراء الذين يتنازعون الحكم ويرهقون الأهالي بالمغارم ليتشبثوا بمظاهر الملك والفخفخة ويتشبهوا بالسابقين في الجاه والأبهة؛ يسلبون الناس أرزاقهم باليمين ليمنوا عليهم باليسار بالأثواب والأطعمة في المواسم والأعياد كأنما يأبون أن يطلبوا الرزق من وجوهه الشريفة، ولا يريدونهم إلا عجزة مستجدين يفزعون إلى بر الأمير ويتمدحون بجوده. تلك كانت حال مصر مثلاً في فترات طويلة من حكم الفاطميين والمماليك؛ وتلك كانت حال الأندلس على عهد بعض ملوك الطوائف الذين لم تكن الحرب بينهم تهدأ، حتى لقد تشابه ثمة الأمراء ذوو الجيوش وقطاع الطرق أصحاب العصابات والمناسر. وقد أوجز بعض شعرائها وصف عبث الأمراء برفاهية البلاد في قوله المفعم بالحسرة:
أطاعت أمير المؤمنين كتائبٌ ... تصرَّفُ في الأموال كيف يريد
فثالث الأطوار المشار إليها في بدء هذه الكلمة هو طور العوز والبؤس الذي جاء رد فعل لطور الإسراف في الترف، كما يجيء الخمار عقب الإسراف في الشراب. وفرق ما بينه وبين فقر الطور الأول أن الأول كان فقراً طبيعياً معتدلاً قضت به البادية على أبنائها وحصنتهم منه بالخلق المتين؛ والأخير فقر منشؤه الإفراط والتفريط، وحليفُهُ الذلة والمسكنة واللئيم من الطباع، وفي طيه الشره والشهوة المكبوتة والتلدد والحرمان. وقد انعكس كل ذلك في أدب هذا الطور إذ جاء ضاوياً سقيما مملوءاً بالشكوى والتوجع، منطوياً على تمويهات المعاني ومخادعات الألفاظ التي تحكى ما كان يجيش به المجتمع من تمويه
هكذا جرى العرب من الترف إلى أبعد غاياته، ثم كانت سقطتهم من بعد ذلك بعيدة المهوى. أما الإنجليز فأنهم وإن شابهوا العرب ومن قبلهم الرومان في تأسيس إمبراطورية ضخمة، كانوا نسيج وحدهم في ترقي أعراض الترف وتحاشي عقابيله التي يجرها على المجتمع، والتي تحدث ابن خلدون وغيره من علماء الاجتماع بهدمها لصروح الدول، لما تسلب أبناءها من صفات النخوة والجهاد والغلبة، فلم يمسَّ الترفُ المجتمع الإنجليزي والأدب