وهنالك وقد غلب اليأس، بعث الله الفرج على يد رجل، رجل واحد طلع من وسط الرمال المتسعرة الملتهبة التي يشوى عليها اللحم، لحم كل عاد يطأ ثراها، وعاتٍ يريد بالشر حماها، من القرية التي هجعت دهراً بين الحرّتين، لا يدري بها قيصر ولا يحفلها كسرى، من أرض الفطرة والحرية التي لم تبلغها أوضار المدينة، من حيث انبثقت الحياة البشرية أول مرة: من جزيرة العرب. . .
رجل واحد قام وحده لإصلاح الدنيا، قال لقريش سادة العرب: اتركي هذه السيادة، فالناس كلهم سواء، لا فضل إلا بالتقوى والأخلاق وبارع الخلال؛ وقال للعرب المشركين: حطموا هذه الأصنام، فأنها لا تضر ولا تنفع، واعبدوا الله الواحد الأحد؛ وصرخ بكسرى وقيصر: أن دعا هذا الجبروت الظالم، وهذه الربوبية الكاذبة، فما كان بعض البشر أرباب بعض، واتبعاني أجعل منكما عبدين لله صالحين!
فثارت به قريش، وقام علية العرب، وعاداه الملكان كسرى وقيصر، وأعلنت أقدس حرب وأعجبها: الحرب بين محمد وبين العالم كله، الحرب التي انتصر فيها (محمد) على الدنيا!
ولكن ما شأن الهجرة في ذلك؟ ليست الهجرة، يا سادة، انتقالاً من مكة إلى المدينة، وليست سفراً كالأسفار، ولكنها المرحلة الأولى من هذا الزحف المجيد للحملة التي جرّدها الله على الكفر والظلم والفحشاء والمنكر وجعل قائدها (محمداً)! إنها الخطوة الأولى من هذا الزحف الذي لم يقف ولم يتباطأ، حتى امتد من الهند إلى مراكش، ثم عبر البحر من هنا إلى الأندلس، ومن هناك إلى البلقان، ثم دخل في الزمان، واجتاز العصور، حتى انتظم أربعة عشر قرناً، وغمر نصف المعمور بالنور، ثمّ إنه سيمتد حتى يبلغ آخر الزمان، ويعم الأرض كلها. . . إن الهجرة هي الحلقة الأولى من سلسلة المعارك الظافرة الفاصلة التي خضناها دفاعاً عن الحق والعدل، والتي منها بدر والخندق والقادسية واليرموك، ونهاوند وجبل طارق، وعمورية والحدث، وحطين وعين جالوت والقسطنطينية، وطرابلس والغوطة، وجبل النار.
لقد مشى (محمد) ليزيح الظلام، ويحطم طواغيت الظلم حيثما قامت. . . وقريش الحمقاء تحسب أنه بعث لها وحدها، وأن مدى رسالته متسع هذا الوادي، وأنه هاجر خوفاً منها، لذلك بعثت رسلها ينفضون الأرض ليأتوا به ويرجعوه إليها. . .