والشرور! والوطن هو قانون الغابة في الملكة الحيوانية لأنه للأسد بأن يحمي حوزته ويذود عن عرينه، ثم لا يتورع عن أن يقتحم كناس الظبي الوديع فيفتك به ويهدم داره)
ونسيت أن الوطن هو أم يتدفق الحنان من قلبها، وأب يتوثب العطف من حناياه، وأبناء هم نور العين وجمال الحياة وبهجة العمر وسعادة القلب، وأهل تهدأ بهم النفس ويأنس إليهم الفؤاد، وهو عش الطير يأوي إليه ليجد الراحة من عناء العمل ويلمس الطمأنينة من عراك العيش ويشعر بالأرض من فزع العاصفة. أرأيت - يا صاحبي - طيراً يحوم حول بقايا عشه المتهدم بعد أن عصفت به ريح صرصر عاتية أو عبثت به يد غشوم قاسية؟ أنه - لا ريب - يتضرم أسى ولوعة ويتنزى ألماً وحسرة لأن عشه الحبيب قد تمزق فوجد - في قرارة نفسه - فقد وطنه العزيز.
هذا هو الوطن في نفس الطير، فما بال الإنسان؟ ولكنك أنت أحسست الضياع في طفولتك والحرمان في شبابك والوحدة في رجولتك، فلا عجب إن أنت كفرت بالوطن لأنك لم تستشعر معناه إلا في تلك الحجرة الضيقة المظلمة في ذلك الزقاق القذر الوضيع حيث عشت وحدك ضائعاً منبوذاً؛ فحملت لأهلك ووطنك كراهية وبغضاً، وتأرثت نفسك حقداً وحسداً، وحاولت - جاهداً - أن تضع من جمال الوطن وفتنته وأن تثلب فنونه وآدابه وأن تحتقر ذكاءه وعبقريته وأن تحطمن صفائه ورونقه عسى أن تشفى داء نفسك السقيمة أو أن تنقع غلة قلبك المريض ورحت تنافح عن الأجنبي وتشيد بعلمه وترفع من قدره لأنه نفخ فيك أنت، يا صاحبي، من روحه ووسمك بسماته وخلق منك فيلسوفاً كبيراً، تفلسفت آراؤه فخان الوطن والدين واللغة.
وسمعتك تقول:(أما الدين فهو غسل ثقيل ينحط بهمم الرجال عن أن تنهض بجلائل الأعمال، وهو خرافة الأخلاق السامية، وهو روح التخاذل والتواكل. ألا تعلم بأن اليهودي يتوسل إلى الثراء بالسرقة والربا، ثم يسيطر - بالمال - على الأمم يصرفها كيف شاءت أنانيته وأطماعه؟ وأن الدول القوية تغتر الشعوب الضعيفة بكلمات الشرف والعدل ولا رأفة وما بها غير الرياء والمكر والخداع وغير شره المال وكلب الذهب؟ وأن الأخلاق القويمة لتصطرع في نفس الرجل القوي مثلما تصطرع الأحزاب في قلب الأمة الفتية فتنهش لحمها وتعصف بحيويتها).