ونسيت أن الدين نور سماوي يهبط إلى الأرض فتنجاب له ظلمات الحياة ومتاعبها، ويتدفق في نواحي الروح فيغمرها بالسلام والطمأنينة ويجذب الإنسان عن النوازع الأرضية ويترفع به عن الوساوس الشيطانية ليلبس ثوب الملك وهو إنسان يسير على الأرض. . .
إنني أذكر - يا صاحبي - يوم أن أرغمت على أن أعيش في قرية نزل بها بلاء الحمى النخاعية الشوكية يحطم أهلها ويعصف بشبابها فانطلقت إلى طبيب القرية - وهو صديقي - أسأله دواء أتقي به شر هذا الوباء الجارف، فما راعني إلا أن أرى في نظراته علامة الدهشة، فقلت له! (ما بالك؟) قال (ألست مسلماً؟) قلت (بلى، وما للإسلام ولهذا البلاء النازل؟) قال (فأنت تتوضأ خمس مرات كل يوم، وفي كل مرة تتمضمض ثلاث مرات؟) قلت (نعم!) قال (هذا وقاء من شر هذا البلاء) ثم اندفع في حماسة يحصي الفوائد الصحية للوضوء والصلاة. هذا هو رأي العلم في بعض معاني الدين، فماذا تقول فلسفتك أنت؟
والدين يشفي الأدواء الاجتماعية مثلما يشفي الأدواء الجسمانية.
وسمعتك تقول (وأنا رجل أناني لا أعتقد إلا في الكسب المالي ولا أوقن إلا بالفوز المادي. وهذا (فلان بك) رجل عظيم، سلك إلى غايته طرقاً لا يردعه عنها دين ولا خلق، فزوجه فتاة شابة ذات جمال ودلال تمهد له السبيل الوعر وتفتح له الباب الموصد ثم تدفعه إلى الهدف وفي سهولة ويسر، وهو من ورائها يندفع حتى كاد يبلغ. ولو أنه تشبث بخرافة الدين أو تعلق بسراب الأخلاق لقعد عن الغاية وتخلف عن الركب).
ونسيت أن الرجولة والشهامة والنزاهة كلها من أمور الدين.
ثم قلت (إن من عبث الأخلاق ما نرى: فالفضائل أشياء نسبية، يتحلى بها الرجل من أوساط الناس فيبدو في أعين الناس فاضلاً كاملاً ويتمسك بها الرجل وهو من العظماء فيتمثله الناس منافقاً مخادعاً. وإن الناس ليتندرون بالرجل العظيم إن هو خلا إلى المسجد والمسبحة والمصحف بقدر ما يسخرون من الرجل العادي إن هو عكف على مجالس الخمر والقمار والفجور. وإن الرجل العظيم ليسرق الآلاف فلا تزدريه عين ولا يحتقره قلب، وإن سرق الرجل العادي درهماً واحداً كبله القيد الحديدي وأن الزعيم اللبق ليسطو على الشعب فيستلبه من ماله ومن مشاعره ليعبث بها في لذائذه ومسراته ثم لا يجد إلا التبجيل والتقديس)