للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وصخب مُضم، حتى اذا ما أقبل خشعت الأصوات وسكنت الحركات كأن شيئاً علق الأنفاس فلا تنسم، وعقد الشفاه فلا تنبس! وربما نزا اللجاج على لسان أحدهم أثناء المناقشة فيغضب الشيخ فلا يكون أنكى في عقابه من الاشارة إليه بالخروج من الدرس، أو الدعاء عليه بالقطيعة من الأزهر! والقطيعة عن الأزهر كانت أقصى ما يتصوره الأزهري من شقاء الحياة! فإذا انقضى الدرس وقال الشيخ: (والله أعلم) تضامت أطراف الحلقة عليه، وأنحى الطلاب بالقبل على يديه وردنيه، فما يشق بينهم إلا بعد لأي

تدبر ذلك في نفسك على إجماله وعمومه، ثم اقرنه إلى ما تسمع اليوم أو تقرأ من خير الأزهر وحال علمائه وأبنائه، فهل تجد المعهد هو المعهد والناس هم الناس؟ إن الأزهر البائد على فوضاه المنظمة كل أجدى على الدين وأعْوَد على الثقافة من هذا الخَلْق المسيخ الذي وقف بين الماضي والحاضر، وبين الدين والسياسة، موقفاً يُندى الجبين الصُّلب، ويوجع الفؤاد المُصْمت!

تقلب بعض زعمائه على فرش الديباج، وخبوا في أفواف الشاهي، وتأنقوا في ألوان الطعام، وتنبلوا بالمظاهر الفخمة، وسردوا أعداد الدنانير على المسابح العِطرة. وكان أسلافهم طيب الله ثراهم كما طيب ذِكراهم يتسترون بمرقعات القطن، ويتبلغون بقشور البطيخ، ويستروحون النسيم على شرفات المآذن

ثم شايعوا أهواء الناس، وصانعوا أهل النفوذ، وجَرَوا في تمكين أمورهم وترفيه نفوسهم على الضراعة والملق؛ من أجل ذلك فقدوا خطرهم في الخاصة، وأثرهم في العامة، وجروا معهم كرامة الدين إلى هذا المنحدر

ان في بقية السلف من أعلام الأزهر مَفْزعاً من هذه الحال الأليمة. فليعملوا لرد هذا المعهد الكريم إلى نظامه، فان شديداً على النفس أن يضطرب فيه الأمر ويشرى به الفساد حتى تطرد طلابه، وتغلق أبوابه

لقد قرأت بالأمس فصلا عن الإسلام في مجلة شهرية فرنسية يقول كاتبه فيه: (لقد انحسر الإسلام عن بلاده أو كاد، فلم يبق داوياً متوثباً إلا في الزهر) فماذا عسى أن يقول هذا المأفون إذا قيل له غداً إن هذا الدوي قد سكن، وهذا التوثب قد قر؟

لا جرم أن المخلصين من علماء الأزهر وأبنائه أقدر على درء هذه الكارثة متى أنضجوا

<<  <  ج:
ص:  >  >>