للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ظهر في الصين من قال بهذا وظهر فيها من قال بغيره وهو الفريق الغالب والقدوة العامة المرموقة من الأكثرين، وربما كان ظهور الحكماء المسالمين وانتشار حكمتهم هو الباعث إلى ظهور المخالفين لهم وإغراقهم في دعوة الحرب وآداب القتال، كما يصيح الإنسان ويبالغ في الصياح كلما أحسن أنه ضائع الصوت والصدى محتاج إلى جذب الأسماع ولفت الأنظار؛ وإنما عبرة هذا جميعه أن النيات لها دلالة قوية وليست الدلالة كلها للأعمال والوقائع؛ فإذا رأينا أناساً ينوون السلم ويحاربون فليس بالصحيح أن نسوي بينهم وبين من ينوون الحرب ويحاربون: هم مختلفون وإن تشابهوا في عمل واحد، ونحن رابحون إذا أشعنا دعوة السلم وإن لم يتبعها على الأثر شيوع السلم وبطلان القتال

ومن الأشياء التي لها دلالتها في العصر الحديث كثرة الناعين على الحروب بين الأمم الحرة، وكثرة المنكرين لمظاهر الزهو التي كانت تحيط فيما مضى برجال الفتوح والغزوات، فسيكون لذلك كله أثره كما كانت له دلالته وكانت له دواعيه. وحسبنا أن العمل في هذه الوجهة ليس بالعبث ولا بالعقيم، بل حسبنا أنه واجب محمود، بل حسبنا أنه ليس بذميم، ليكون ذلك من أسباب المضي فيه والإقبال عليه

يقال إن الضراوة ليست من طبيعة الوحش في حالة التأبد والسهولة. ويقول هدسون: إن ألبوما - وهو من أشد السباع الأمريكية - لا يهجم على أحد إلا وهو مدافع عن حياته. ويقول كومستوك: إن الثعابين والدببة وغيرها من السباع لا تتعلم الضراوة إلا حين يظهر بينها الإنسان ويوغل بينها في الصيد والاعتداء والتحرش والإيذاء. وحسبنا من ذلك أن الضراوة ليست أصلاً في الخليقة حتى بين السباع والعجماوات، وإنها ضرورة وليست بشهوة مطلوبة، وأنها تحول إذا امتنعت الضرورة وتغيرت الأسباب. فلا نزعم كما يزعم الفاشيون أن تربية الإنسان على الحرب فضيلة متى ثبت أن الحرب رذيلة ليس عنها محيد: ذلك خطأ لا ريب فيه، لأنه لم يثبت أولاً أن الحرب طبيعية في الأحياء، ولن يثبت بعد ذلك أن الرذيلة تصبح فضيلة مرغوباً فيها متى علمنا أنها عسيرة الاجتناب

ولست أكبر من شأن الدلالة التي أشار إليها الكاتب (الدوس هكسلي) صاحب كتاب الغايات والوسائل حين قال: إن الإنسان في دور الفطرة لم يكن يعرف الحرب على نظامها المعروف بين أصحاب الحضارة، فإن الرجل الذي يحارب ليس بأبشع ولا أقسى من

<<  <  ج:
ص:  >  >>