على حين ينزع الضعفاء إلى الاتحاد والتجمع. والرجل الممتاز - كما يقول زرادشت - هو ذلك الذي ينفر من المجتمع، ويأنف من الجماعة، ويحلق بجناحيه فوق السحاب، فترمقه أعين الحاسدين، وترشقه نظرات الحاقدين. وليس بدعا أن يثور الناس على مثل هذا الرجل، فإن من دأب العامة أن تتمرد على كل رجل مبدع يعزف بنفسه عن غمار الناس:(إنك لتعلو عليهم وتسمو فوقهم، ولكنك كلما ازددت علواً، ازددت صغاراً في أعينهم الحاسدة. أما ذلك الذي يحلق بجناحيه فوقهم، فليس أبغض إليهم منه)!
ولكن، أليس الإنسان حيوانا اجتماعيا يميل إلى التجمع بفطرته، وينفر من العزلة بطبيعته؟ ألم يقل أرسطو إن حياة العزلة لا تتهيأ إلا لإله أو حيوان؟ إذن فكيف يزعم نيتشه أن (الرجل القوي) هو (الرجل المتوحد)؟ وكيف يذهب إلى أن الضعفاء هم الذين ينزعون إلى الاتحاد والتجمع؟. يجيب نيتشه على هذا فيقول: إن الإنسان حيوان مفترس متوحد، فالأقوياء الذين هم سادة النوع البشري يميلون بالضرورة إلى العزلة والتفرد، وينفرون من كل نظام يضطرهم إلى الاتحاد والتجمع، وبعبارة أخرى فإن الحياة الاجتماعية في نظر نيتشه معارضة للطبيعة، لأن الإنسان حيوان غير اجتماعي بفطرته. وإذا كان الأقوياء قد يكونون مجتمعا في بعض الأحيان، فإن ذلك يرجع إلى رغبتهم في القيام بحركة عدوان مشترك، يرضون بها إرادة السيطرة التي توجد لديهم جميعا. ولكن شعورهم الفردي في معظم الأحيان، ينفر من تلك الحركة المشتركة، ويتأذى من ذلك العمل الجمعي. أما الضعفاء فإنهم يرتبون أنفسهم في طبقات متلاصقة، إرضاء للحاجة التي يشعرون بها نحو هذا التجمع، وبذلك تلقى غريزتهم لذتها القصوى الكاملة
ولكن، هل من الحق أن التجمع دليل الصعف؟ أليس التاريخ الطبيعي شاهدا على فساد هذا القول؟. . . إن الواقع أن الحيوانات التي توجد لديها (غريزة القطيع) قد استطاعت أن تخرج من معركة تنازع البقاء ظافرة منتصرة بينما خرجت الحيوانات المتوحشة مغلوبة منكسرة. وهاهي ذي الحيوانات القوية تعيش جماعات، فتكون القردة لنفسها أسراً، على الرغم من أنها لا تقل في ذكائها عن النمورة والفهود. وهاهو ذا التاريخ يظهرنا على أن الإنسان القديم لم يكن يعيش وحده، بل كان يعيش في مجتمع. فليس من الصحيح إذن أن قوة الكائن الحي هي التي تولد فيه الميل إلى الوحدة والتفرد، بل الصحيح أن الكائنات