القوية تجنح إلى الاتحاد والتجمع، وتنفر من الانفصال والتفرد. وهل كانت الفيلة حيوانات ضعيفة، لأنها تحب الاجتماع؟ أو هل كان رجال (ما قبل التاريخ) ضعفاء، لأنهم كانوا يميلون إلى التجمع، كما سبق لنا القول؟. . . إن سيد الكون الذي دان له كل شيء في الطبيعة، والذي قهر سائر الأجناس الحيوانية ولا يزال يقهرها، إنما هو (الإنسان) الذي يعتبر الحيوان الأول بين طائفة الحيوانات القطيعية؛ فهل علينا من حرج إذا قلنا إن الإنسان حيوان اجتماعي بفطرته؟
لقد أراد نيتشه أن يتمرد على المجتمع، لكي يقتصر على عبادة الذات وتقديسه، ولكن هل نسى نيتشه أن ما يسميه (ذاته) إنما هو في جانب كبير منه، تراث اجتماعي تعاقبت على تكوينه الأجيال؟ فماذا عسى أن يكون نيتشه، وماذا عسى أن تكون ذاته، إذا جردناه من كل ما وضعه فيه الآخرون، وإذا استبعدنا من نفسه كل ما أودعه فيها المجتمع؟ إن نيتشه حين يتوهم أنه يتأمل ذاته، فهو في الواقع إنما يتأمل العالم كله؛ وهو حينما يظن أن في إمكانه أن ينفرد بنفسه ويعتزل الناس، لا يزال بالرغم من ذلك محتفظا في أعماق نفسه بكل أصداء القرون الخالية. ففي أبعد أغوار نفسه - مهما تنكر للماضي - ترن أصداء الأجيال الغابرة. وهل يستطيع الفرد أن يفكر إلا إذا استعان بأفكار السابقين، واستند إلى أعمال المتقدمين؟ إذن فمن الجهالة والعقوق، أن يتنكر الإنسان للجنس البشري كله، وأن يكفر بكل شيء، اللهم إلا فرديته وما يجيء معها من أثرة وعجب وحمق وغرور! ولو أن نيتشه تدبر الأمر في جو حر لا تفسده نزعة أرستقراطية متطرفة، لما تردد في أن يقول مع جويو (أنا لست ملكاً لنفسي؛ لأن كل موجود ليس بشيء من غير الكل. فالموجود بمفرده لا شيء!)