وإذا جعتم هذا الجوع الاختياري، فاذكروا من يتجرع غصص الجوع الإجباري، واشكروا ربكم على نعمه. وليس الشكر أن ترددوا ألف مرة باللسان: الحمد لله! الحمد لله! ولكن شكر الغني البذل للفقراء، وشكر القوي إسعاد الضعفاء، وشكر السلطان إغاثة اللهفان.
وأعطوا من نفوسكم كما تعطون من أموالكم، فرب بسمة مع العطاء، تنعش السائل أكثر من العطاء، وكلمة خير لجار تحيي الجار، وبش في وجه ذي الحاجة والاعتذار عنها خير من قضائها مع الترفع عليه عند السؤال، والمن عليه بعد النوال.
واذكروا أن الله خلق الإنسان مركباً من ملك وشيطان وحيوان، فإذا هدأ الحيوان في رمضان بترك الطعام، وخنس الشيطان بردع الشهوة، بقي الملك، فتخلقوا بأخلاق الملائكة، فلقد كان المسلمون الأولون ملائكة الخير في الأرض، وكانوا يعيشون عيش الملائكة، لا يعصون الله ما أمرهم، ويفعلون ما يؤمرون، قد فرغوا من شهوات البطن، فأجزأتهم تمرات في اليوم، وفرغوا من هم ما تحته، فلا تستهويهم شهوة، ولا يستعبدهم جمال، وعاشوا لهدف واحد، هو الواجب، فكان كل مسلم قطعة من هذه الآلة الضخمة الهائلة، التي أدارها الشرع، فأدارت الفلك.
كانوا يقومون لله، ويقعدون لله، ويأخذون لله، ويدعون لله. دعوا إلى البذل فأعطوا؛ جهز عثمان جيش العسرة من ماله، وأعطى عمر نصف ماله، وأعطى أبو بكر ماله كله، فقالوا ماذا تركت لأهلك؟ قال: تركت لهم الله ورسوله.
ودعوا إلى الجهاد، فجادوا بنفوسهم في سبيل الله، وأتوا العجائب، وقحموا الأهوال، حتى فتحوا ثلث العالم في ثلث قرن، ودعوا إلى العلم فكانوا أساتذة العالم. كانوا جناً في النهار، ورهباناً في الليل، وكانوا أكبر من الدنيا، لا لأنهم ملكوا الدنيا، فالدنيا لا يملكها كلها أحد، بل لأنهم زهدوا في كنوزها، فصارت كنوزها هي والتراب عندهم سواء. وأنت إن كنت تملك قرشاً ولا تطلب غيره، أغنى ممن يملك المليون ويطلب مليونين، لأن ذلك ينقصه مليون، فهو يحن إليه، ويتحسر عليه، وأنت لا ينقصك شيء.
فجربوا هذه العظمة في رمضان، لا تفكروا في الطعام، لا تثركم موائد الملوك، ولا ما احتوت المطاعم، ولا تفكروا بالنساء، لا يثركم حور الجنان.
هذا رمضان يا أيها الأخوان، فخذوا منه الصحة لأجسامكم، والسمو لأرواحكم، والحب