ورأي نيتشه أن الحياة تفتحت له من جديد، إذ أخذ يدرك الأشياء على حقيقتها بعد أن زال عنه الغشاء. وقد أدى به تجواله إلى هيامه بتلك البلاد الجنوبية هياماً ضارع حبه لوطنه. ومن ثم أصبح شخصاً آخر لا يؤمن بوطن خاص، وصار (أوربياً) لا يفرق بين شعب أو وطن، حتى لقد قال (لكي تكون ألمانيا صادقاً، يجب أن تنتزع النعرة الألمانية من صميمك). كذلك قال:(إن الألمان هم رجال الأمس البعيد وسيصبحون رجال الغد البعيد، أما أنهم رجال اليوم فلا!) وما ذلك إلا لتعهدهم بتربية العاطفة بدلاً من تعهدهم تربية الفكر. وألمانيا في اعتبار نيتشه أحط مستوى من بقية دول أوروبا في الناحية الثقافية. ولم يشعر نيتشه بأنه ألماني إلا بالقدر الذي تسمح به طبيعته (الأوربية الصادقة) فهو ألماني كما هو بولوني أو أيطالي أو غيرهما. ولعل حياته الأولى ومحيطه الذي عاش فيه ساعداه على أن يكون ذلك الرجل
وإذا كانت أعمال (أفلاطون) و (أسبينوزا) و (بسكال) و (روسو) و (جيته) قد أحدثت تطورات في الفكر البشري كما يقول نيتشه فأن كتاب (شفق الصباح) الذي أخرجه نيتشه عام ١٨٨٢ وجعل له عنواناً آخر هو (أفكار عن الأحكام الخلقية) أحدث هو الآخر تطوراً في الفكر البشري. وفيه عالج المسائل الأخلاقية، فمثلاً كتب عن العادات المستحبة. وتساءل: ما هي العادة التقليدية؟ فقال بأن العادة التقليدية هي الخضوع إلى ما يضاد العادات الغريزية. وقال بأن على الناس أن يتعلموا من جديد، وعليهم أن يرفضوا ما أتفق عليه العالم من عادات تقليدية، إذ لا يوجد (عدل أبدي)، ولهذا فهو ثائر على كل اعتبار، حتى الاعتبارات الدينية المسيحية. وأعقب كتابه هذا بآخر عنوانه العلم المرح وقد حاول فيه أن يحرر الإنسان من قيوده المكبل بها، ويبعده عما لحق به، كيما ينتعش فكره. ولم تمض أربع سنوات أخرى حتى أخرج كتاباً آخر عنوانه (لغة الريح الساخن)(الذي من شأنه أن يذيب الثليج) - والكتب الثلاثة الأخيرة تمم بعضها بعضاً. وفيها من غريب الآراء في الأخلاقيات ما لا يصح تلخيصه في مثل هذه العجالة.
وعثر نيتشه في قراءاته على (زرادشت) فيلسوف الفرس الأقدم ومعلمها الأول والحكيم الخالد الذي عالج كل مسألة. فأتخذ من أسمه شخصية تملى على الناس آراءه الخاصة. فأصدر في فبراير سنة ١٨٨٣ الجزء الأول من كتاب (زرادشت). ولم يكن نيتشه في