(ب) وقريب من ألغاز الفقهاء وفتاويهم - وإنهن لكثر - ألغاز أئمة اللغة
على أن هؤلاء لم يكتفوا بابتداع الألغاز ابتداعاً، أو جمع ما قيل منها مقصوداً به التعمية حقيقة، وإنما أضافوا إلى ذلك أشياء من كلام العرب فطنوا إلى إمكان إيجاد التعمية فيها، وإن لم يقصد قائلوها ذلك. وأكثر هذا أبيات من الشعر القديم (لم تقصد العرب الألغاز بها وإنما قالتها فصادف أن يكون ألغازاً. وهي نوعان: فإنها تارة يقع الألغاز بها من حيث معانيها وتارة يقع الإلغاز بها من حيث اللفظ والتركيب والإعراب). ويسمى القسم الأول أبيات المعاني، ومن أقدم أمثلتها قول الشاعر - يصف عقاباً صعد إلى موضع وكرها في يوم عاصف الريح:
ومحجوبة أزعجتها عن فراشها ... تحامي الحوامي دونها والمناكب
وخفاقة الأعطاف باتت معانقي ... تجاذبني عن مئزري وأجاذب
ومن جياد أبيات المعاني في شعر المتأخرين قول النواسي يصف الكرم:
لنا هجمةٌ لا يدَّري الذئب سخْلها ... ولا راعها غضُّ الفِحالة والحظرُ
إذا اختبرت ألوانها مال صفُوها ... إلى الحوِّ إلا أن أوبارها خُضُر
وقوله من قصيدة يمدح فيها الفضل بن يحيى:
إليك أبا العباس من بين من مشى ... عليها امتطينا الحْضَرميَّ الملسَّنَا
قلائصُ لم تعرفْ حنيناً على طَلي ... ولم تدْرِ ما قرعُ الفنيق ولا الهِنا
قال ابن رشيق: (فذكر أن قلائصهم التي امتطوها إليه نعالهم، فأخرجه كما ترى مخرج اللغز، واتبعه أبو الطيب فقال:
لا ناقتي تحمل الرديف ولا ... بالسوط يوم الرهان أجهدها
شراكها كورها، ومشفرها ... زمامها، والشسوع مِقْودها
ومن أبيات المعاني قول شاعر يصف أيام الزمان ولياليه (وهي الأسبوع):
سبعٌ رواحلُ ما ينخْنَ من ألونا ... شيمٌ تُساق بسبعة زُهْر
متواصلات لا الدؤوبُ يملُّها ... باقٍ تعاقُبها على الدهر
ولأبن اسحق الجرمي (توفى ٢٢٥هـ) في دودة القز:
وبنات جيب ما انتفعت بعيشها ... ووأدتُها فنفعْننَى بقبور