كل واحد أن تعود يده إلى القصعة بعد الأوان فلا يجد اللقمة الثانية. . .!
هكذا كان يعيش نصف الشعب في تلك الأيام السود مما فعل القحط والغلاء، لأن أقوات الشعب قد حملت إلى الميدان لتخزن في دار المؤن وقتاً ما، لتقذفها من بعد قنابل المحاربين وتذروها رماداً في الهواء. . .!
ونظر الرافعي حواليه فارتد إليه البصر حسيراً مما يرى ويسمع، فاحتبس الدم في عينيه ولكن قلبه ظل يتحدث بمعانيه
ومضى عام وعام والحرب ما تزال مستعرة، والبؤس تتعدد ألوانه، وتتشكل صوره، وتحشد آثاره؛ والرافعي دائم الحديث إلى نفسه وهو يحمل من هم الشعب في قلبه كبير، حتى امتلأ الإناء يوماً ففاض. . .
في بعض اللحظات التي تفيض فيها النفس بالألم، يحس الإنسان كأنه شيء له نظام في الكون إرادة وتدبير، وأن من حقه أن يقول للمقدور: لماذا أنت في طريقي. . .؟ فتراه في بعض نجواه يتساءل: ربِ لم كتبت علي هذا. .؟ لماذا حكمت بذلك. .؟ لماذا قدرت وقضيت. .؟ ما حكمتك فيما كان. .؟ ألم يكن خيراً لو كان ما لم يكن. . . .؟ ثم يثوب إلى نفسه ويفيء إلى الحق، فيعود معتذراً يقول: لقد ظهر حكمك، ودقت حكمتك فمغفرةً وعفواً. . .!
وتظل حكمة الله مطوية في ظلمات الغيب، لا يتنورها إلا من غمره شعاع الإيمان وسطع في قلبه نور الحكمة، أما الذين تعبدتهم شهوات أنفسهم فهم أبداً في حيرة وضلال.
في لحظة من تلك اللحظات أغمض الرافعي عينيه وراح يفكر، وفي رأسه خواطر يموج بعضها في بعض؛ ثم فاءت نفسه، فرفع رأسه وهو يقول:(ربِ، ما أدق حكمتك وأعظم تدبيرك. .!) وأفاض الله عليه ورفع عن عينيه الغطاء. . .
وعاد ينظر إلى الناس يأكل بعضهم بعضاً، ويسرق بعضهم أقوات بعض، ويتزاحمون على الحياة فيسارعون إلى الموت؛ فدمعت عيناه ولكنه كان يبتسم، وعاد يقول:(حكيم أنت يا رب! ليتهم وليتني. . . ليتهم يعلمون شيئاً من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس!. . . كل شيء في هذا الكون العظيم يجري على قدرٍ منك وتدبير حكيم!)