وكان فكر حافظ فيض الشعور وعفو البديهة، ينشأ في الكثير الغالب من آراء المجالس، وأقوال الصحف، ومخزون الحافظة، فلم تعنه حياته على التروية، ولم يدعه اضطرابه إلى التأمل، ولم تطلقه قيوده إلى الطبيعة، وإنما ظل صنيعه لوحي البيئة، وإلهام الفطرة، وتوجيه المناسبة؛ فهو في قصائده للإمام يذكر تعلق الناس بالأباطيل، وتهالكهم على عبادة الموتى، ولا يزيد في ذلك على نقد الإمام ونعيه؛ وفي قصائده لقاسم يذكر الحجاب والسفور بما لا يخرج عن مذهبه ورأيه؛ وفي قصيدته التي أنشدها في احتفال مدرسة البنات ببور سعيد يتكلم في تعليم الأم وسفور المرأة وعيوب الجماعة بما لا جديد فيه؛ وفي قصائده التي نظمها في مشروع الجامعة وافتتاحها يجمل ما فصلت الصحف من الموازنة بين الإكثار من الكتاتيب وإنشاء الجامعة؛ وفي رثائه لتولستوي يذكر السلم والحرب، والخير والشر، والغنى والفقر، بما لا يبعد عن متناول الناس، ولا يرتفع عن مستوى الجمهور؛ من اجل ذلك كان فكره مستقيما لا ينحرف، وواضحاُ لا يلتبس، وسديداُ لا يطيش، والسر فيه اعتماده على قوة الإجماع، لا على غرابة الإبداع
وكانت ثقافة حافظ ثقافة الشاعر العربي الأول: يتزود لمجالس الملوك بالإخبار والطرف، ولمحافل الأدباء بالأشعار واللغة، ويستعين على ذلك بسلامة الذوق، وصفاء الطبع، وقوة الحافظة، وكثرة الاطلاع، وجودة الاستماع، وإلحاح الحاجة؛ ولحافظ في كل أولئك موضع منفرد ومكان بارز
عكف منذ شب على دواوين الشعراء وأجزاء (الأغاني) يتنخلها، ويتمثلها، ويعاود النظر فيها، ويستكمل الحظ منها، حتى بلغ من مختار الرواية ومصطفى الكلام ما لا غاية بعده؛ ثم قنع من فروع الثقافة الأخرى بنتف من المسائل الأولية، ينقلها عن السماع ويأخذها عن الصحف إذا ظن أنها تدخل بوجه من الوجوه فيما يعنيه من ابتكار الأسمار وصوغ القريض؛ حتى لغته الفرنسية ظلت بكماء فلم يتقنها ولم يستفد منها لا بالقراءة ولا بالترجمة؛ وثقافة الشاعر المدني المجدد ثقافة محيطة شاملة تشارك في ضروب المعرفة مشاركة بصيرة، وتتابع تقدم الفكر متابعة حرة
أما صياغة حافظ فهي موهبته الأولى ومزيته الظاهرة، وهو في ذلك ثاني الخمسة الذين