أذنيه من ضجيج العجدلات، وصريرا لآلة، وهمهمة الأشجار في أذن الليل. . . فلما وصل التراتم الأهرام تهالك في مقعده، وأغمض عينيه وهو يتحسس بيده جبهته الملتهبة، ويحدث نفسه: لا بأس. سأقضي العيد مع ياسمينة، وارتسمت فوق شفتيه ابتسامة سعيدة، ورقص شاربه الفضي.
حاول لآن ينام ريثما يحين وقت العودة، لكن الالم كان يحتدم في جمجمته، ويتردد في عظامه فيعيده إلى اليقظة. . . وأخيراً آثر أن يفكر، وأن يرسل روحه في ماضيه.
واضطربت مقلتاه خلف جفنيه المقفلين! فقد ذكرلا (آلة القيادة). آلته المحبوبة، التي يحركها فتندفع المركبة، وتشق الطريق وهي تغنى بعجدلاتها فوق القضبان!. . واشتاقت يده أن يلمسها، ويشركها سعادته بالعيد، فمد نحوها يديه، ما أعزها عليه! أليست رفيقة حياته، وعشيرته الدائمة، كزوجته كتورة سواء بسواء!.
وتقلصت ابتسامته عن شفتيه!. ذكر سيئات آلته، وانها لم تكن له مطيعة ولا موانية في بعض الاحيان. وبدت امنام عينيه صور أشلاء مبعثرة، وطربوش فارق جبهة هشمتها العجلات. ودم قان يبلل الحصى ويصبغ القضبان!. . وذهب يستر عينيه بيده المرتجفة النحلية، فقد ذكر موقفه في قفص الاتهام، في محكمة الجنايات، والنائب يحدث المستشارين قائلاً: كان الصبي وأخته في طريقهما إلى المدرسة عندما دهمهما هذا الرجل الشرير المستهين بالارواح من العدل أن ينال أقصى القصاص.
لقد برأته المحكمة. (ومضت عشر سنوات) لكنه يشعر للآن أنه مذنب. وأنه قد ارتكب خطأ ما. وخيل اليه ان الصغيرين ينظران اليه بعيون بريئة عاتبه مملوءة بالألم. وأن أبويهما يجدد ان الحزن في العيد ويذهبان الليلة الى الكنيسة في ثياب سوداء يلتمسان العزاء ويسألان النعيم لولديهما والسلوان لأكبادهما الحرى، فانسابت الدموع من بين جفنيه وبللت وجهه النحيل، وغمغم بصوت حزين (رحماك يا رب)
وارتد فكرة من هذه الجولة في الماضي. وذكر أن (ياسمينة) تنتظره ليشاطرها طعام العيد ورأى مائدة شهيةـ متعددة الالوان عقب أيام الصوم. وما تنالو فيها من طعام غليظ مجهز بالزيت، فسال لعابه. وبدأت اساريره تنبسط. . وبدأ يصفح عن آلته العزيزة وما فعلت طالما مكرت به كتورة واذنبت اليه وسامحها فلا ضير ان سامح آلته المحبوبة.