وأخذ القمر يغالب الغمام ثم احتجب، وأظلمت الدنيا وامتدت ظلمتها الى روح (المعلم لوقا). . عاد فذكر شيخوخته، وان الحياة ستتبرع له بأيام أخرى قليلة إن كانت كريمة. من يدري قد لا يأتي عليه عيد جديداً. . قد تقضى (ياسمينة) العيد الآتي وحدها، وتشتمل بثوب أسود، وترسل أثوابها الزاهية الملونة الى المصبغة: ويطفئ الحزن لمعان عينيها، ويذهب ببهجة قلبها، وتصير ابنة يتيمة منكرة!. .
نشر يديه في الهواء كأنه يحاول ان يحميها، ثم سقطت يداه فوق ركبتيه، وانتابته رعدة، وأخذ السعال يصخب في صدره. ففتح عينيه وأخذ يحدق في الظلام وقديمم وجهه شطر الصحراء ورأس نفسه يرتقي الاهرام كما كان يفعل ايام الشباب! وخلال انه جالس على القمة يستعرض الحياة من هناك، ويرسل بصره من مكانه العتيد في القفر البعيد الممتد!. . هو واحد من هذه الهوام الزاحفة على ظهر الارض يسحقها الموت بقدمه وهي تسعى، فتضير نسياً منسياً كهذه الحشرة التي يدوسها عابر السبيل!.
وبدت له الحياة متعبة ثقيلة لا خير فيها. . . ما اشبه برجل سائر على الرمال، تائه ضال، يسير نحو مصير مجهول تضربه الشمس، ويقرسه البرد، وتروعه وحوش الفلاة. . . يسير ويسير، وهو ينشد الواحة. ويحتمل الصعاب والمشاق على أمل أن يستريح عليها راحة الأبد، ولا يعود يخشى عرياً ولا جوعاً. . .
ماذا كسب من حياته!. . لا شيء. عمل، وعرق، وخبر. . . ليست هناك مسرات. ولد وتألم، سيموت. لم يبق غير المرحلة الاخيرة. . .
وحدق في الآلة التي امامه، وهي جالسة صامتة، تنتظر يده لتدور، وتفنى الوقت في الدمدمة. لم تعد جميلة في عينيه! ود لو يحطمها! رأى نفسه عبدا لها مربوطا بها يطوف واياها حول المدينة كما تطوف البقرة الذلول حول الساقية كل النهار. أي فرق بينهما!. . بل انه اسوأ منها حالاً! هي تعمل لقاء حفنة من الشعير، وهو يعمل لقاء أجر لا ينيله بين الناس الترف الذي نالته بين البهائم. . .
ماذا أصاب من حياته!. . تنبهت روحه، وأحس كأنه قد حمل على كتفه من ركبوا معه طيلة مدة خدمته. ذكر مركبة الدرجة الأولى التي تكون الى ظهره اذ يقود الترام. وذكر المترفين الذين يصعدون اليها. ناس من طينة غير طينته. ليسو قوما مملقين متعبين مثله