وأوقدتِ لي نار الظلام! فلم أجد ... سَناكِ بطرْفي بل سِنانكِ في ضِبْني
وقد أوثقته الأيام على صليبه في محبسه، وسمرت جوارحه بمسامير العجز، وحررت فكره ولسانه وبيانه. والبيان قوة خطرة في مثل هذه الحال، تخلق ما ليس موجوداً، وتبالغ في الموجود حتى تخرجه إلى الإحالة، وتخدع صاحبها قبل غيره، وتضخم تهاويل الحرمان والعجز، حتى تصير كابوساً يأخذ بالأنفاس. . .
ومن عجيب أمر الحياة مع المعري أن أطالت عمره مصلوباً وحيداً إلا من صحبة نفسه التي لقي منها البرح البارح، ولقيت من فكرة الحيران العذاب المضاعف
وقارئ (اللزوميات) يخيل إليه أنه أمام آهات موصولة من ذلك (الفكر) المصلوب الذي أكلت من رأسه وتخطفته طيور الشك والألم والحيرة وإرهاف الحس وعدم الصبر على الفتنة بالناس، وعلى السير معهم على سطح الوجود بدون تعمق وطلب لما لا ينبغي أن يطلب. وكأن ذلك القارئ أمام مريض مزمن يتقلب على فراش شائك. ولم تكن حالات التسليم والهدوء والرجوع إلى معاني سطح الحياة تعتري المعري إلا كما تهدأ الحمى عن مريض برهة مخطوفة، ثم لا تلبث أن تعود في إلحاح ولجاج وإنهاك
وقد قلت في مقال سابق: إن السكر بالألم سكر خطر، أشد خطورة من السكر باللذة؛ لأن في الثاني إقبالاً على الحياة واعترافاً بها، وحب تذوق لفرصتها ألعابرة، وخواطر مسرة ورضا عنها وعن أفانين الإبداع فيها. أما السكر بالألم فيحمل على هذيان فيه رفض للحياة جملة، وتعطيل لحركتها في النفس، وخواطر سخط على صانعها، وانتقاد لنظمه فيها، وانتقاض وثورة وإباق وفرار وحقد دفين وغيط معلن وفضول وتدخل من كائن صغير ضئيل في السياسة العليا للحياة
سكارى اللذة قد يسخرون بشريعة الاجتماع ويحطمونها من فرط وفور القوة وَتَوَفزِ الحس والشعور بما فيها من متاع عبقري تستجيب له نفوسهم، ولا يقفون في استجابتهم له عند الحدود التي دلت تجارب الأحياء الذين كان لهم مثل هذه الاستجابة النهمة على أنها حدود يلزم الوقوف عندها واحتجاز النفس دونها إبقاء على تلك الاستجابة ذاتها، وإدامة لتجددها وطلبا للمزيد منها. ومن السهل رجوع سكارى اللذة إلى أحضان شريعة الاجتماع باستخدام