المشابهات التي يستفيد منها الرجل، وتتجلى أمامي السبل التي سيطرقها عملي وهي السبل التي سلكتها الإنسانية بأسرها وقطعتها من قبلي. إن الأشياء رتبت طبقاُ للفوائد التي يمكنني أن أستخلصها منها، وهذا الترتيب هو الذي أشاهده أكثر مما أشاهد لون الأشياء وشكلها. لاشك في أن الرجل أرفع مكانة وقدراً من الحيوان من تلك الناحية، وإنه لقليل الاحتمال أن تفرق عين الذئب بين الجدي والحمل؛ فكلاهما في نظر الذئب فريسة مستساغة، وكلاهما سهل المنال، وكلاهما صالح للالتهام. أما نحن فإننا نفرق بين العنزة والخروف، ولكن هل ترانا نميز بين عنزة وعنزة وبين خروف وخروف؟ إن فردية الأشياء والكائنات تغيب عنا كلما تبين لنا أن في جلائها نفعاً مادياً، بل في الأحوال التي نتبين فيها تلك الفردية (كما في الظروف التي نتبين فيها الفرق بين رجل ورجل آخر) فان أعيننا لا تلتقط تلك الفردية بالذات أي بعض التآلف الغريب الذي يوجد بين الأشكال كما يوجد بين الألوان، ولكنها تلتقط لمحة أو لمحتين تسهيلاً للتحقق العملي من وجود الشبه بينهما
ومجمل القول أننا لا نرى الأشياء في ذاتها وإنما تقتصر في أغلب الأحيان على قراءة ما هو مكتوب على البطاقات الملتصقة بها. وهذا الميل الناشئ عن الحاجة يزداد كذلك تحت تأثير الكلام والنطق، لأن الألفاظ (فيما عدا أسماء الأعلام) تعبر كلها عن الأنواع. إن الكلمة التي لا تعبر إلا عن ماهية الشيء المألوفة العادية ولا تدل إلا على مظهره المبتذل تنساب بين الشيء وبيننا فتحجبه عنا وتخفي شكله عن أعيننا إن لم يكن هذا الشكل قد توارى خلف الضروريات التي كانت السبب في خلق تلك الكلمة. ولا يقتصر الأمر على الأشياء الظاهرة وإنما يتعداه كذلك إلى حالاتنا النفسية التي تتواري عنا وتختفي وراء جوهرها الذاتي. عندما نشعر بالحب أو بالحقد، وعندما نشعر بالسرور أو بالكآبة، فهل شعورنا بالذات هو الذي يصل إلى ضميرنا بآلاف التموجات الشاردة وآلاف الأصداء العميقة التي تجعل منه شيئاً من خصائصنا الذاتية المطلقة؟ إذن لكنا نصبح كلنا روائيين، وكلنا شعراء، وكلنا موسيقيين. ولكننا في أغلب الأحيان، لا نرى من حالتنا النفسية إلا نبسطها الظاهر. إننا لا ندرك من مشاعرنا إلا مظهرها الغريب عنا، والذي حدد اللفظ معناه كلية لأنه يكاد يكون متشابهاً دائماً، وظروفه تكاد تكون واحدة عند جميع الرجال. وهكذا فان الفردية تغيب عنا حتى في شخصنا. إننا نتحرك في وسط محيط من الاعتبارات والرموز كأننا بداخل