الطبيعة التي لقنت أجداده أبلغ الحكمة. لقد عرف الأمل في الشروق، وعرف العراك والألم والصبر في رائعة النهار، كما عرف الهدوء والرضا في صفحة الغروب، وسمع خطيب الليل الصامت يلقى على الإنسانية فلسفة الجنوح والاستسلام إلى قوة غالبة، يجد في جوارها السلم والعافية، واستقام له من كل ما قرأ في كتاب الوجود فلسفة راسخة قوية، لا يغريها الأمل، ولا يوهنها اليأس، لأنها أقوى من إغراء الأمل، وأسمى من تخاذل اليأس. إنها فلسفة الرضا المقرون بإشراق الحقيقة، يطل منه على هذه الحضارة الصاخبة المجنونة.
لم تكن أنغاما تتألف من مقاطع، ولكنها صلوات القلب في محراب الطبيعة، تتألف من ضراعات الرهبان، ونسك العابدين، لست أدرى أهي حفيف ذكريات الزمن البعيد، أم أنها الترانيم الهامسة منذ الأزل في فضاء الوجود. أنها رسول السلام والأمن أقبل من السماء إلى الأرض ليغفر ما جرحت أيدي الحضارة وليبارك الضعاف الأقوياء الذين شرعوا أقوم المثل في الصبر والرضا، حتى إذا أقبل الليل وجدوا فيه متنفساً لآلامهم ودموعهم. .
قال لي تراعى في صفارته:(إن أمانينا ستظل رسول العذاب إلى قلوبنا، وستظل سبب شقوتنا في الحياة، حتى نغير النظرة بأخرى، وحتى نستبدل مقياس السعادة بآخر إلى النفس بصلة، وحتى ننصرف طوعا وترفعاً عن روعة لو اختبرناها لظهر زيفها وباطلها. . .)
(إن فلسفتي هي أقوم ما انتهت إليه الفلسفة المتحضرة: حياة ساذجة لا صنعة فيها، وعزوف عن الظاهر البراق لا زهداً ولا يأسا، ولا حتى تدينا، ولكن إيثارا للحقيقة، وإدراكا لجمالها، وتلبية لنداء النفس المطبوعة التي لا تخطيء في الدعاء. .)
(إن فلسفتي لا تعني بغير نشيد الكون في جملته، وما بحثت قطر عن مم يتألف النشيد، ولا حاولت أن تعرف مقاطع نغمه، وضروب إيقاعه. وإذا جهلت أنا شيئا من هذا فان ذلك لا يحرمني السرور بجمال الأنشودة في جملتها، وإن عناصر الكون الحافلة بالأسرار لتتجمع كلها في لحن واحد، ما أيسر أن تحس النفس جماله، وتنعم بإدراكه، فعلام إذاً أشقى في تحليل المقاطع، ومناقشة العناصر. .)
(إن الوجود في فلسفتنا معشر الرعاة ترنيمة تنفح بعبير السماء، تذيعها الطبيعة في لحنها صباح مساء. إنه النهر الجاري تصفق في جوانبه الجداول، وتنعم الطير على شاطئيه، ما