سألت قط عن منبعه ولا مصبه، ولكنى أسير مع التيار شاديا مغردا، أسبح بهذا النعيم، وأشيد بجمال الحقيقة. .)
(وماذا يعنيني أن أبحث كما يبحث هذا الرجل المعذب (بالوجودية)، انه يشقى ويشقى الناس معه، ليثبت أن الوجود يسبق الجوهر، وان الإنسانية لهذا محكوم عليها بالألم الشقاء. إنه لا يفهم الإنسانية إلا على هذا النحو الأسود القاتم، ولا يراها غير فريسة للآلام، فراح يلتمس لنا في فلسفته، وقصصه؛ ومسرحياته كل جرح دام من جراح الإنسانية المعذبة، وسارت باريس في ركابه تحمل المناظر السوداء، لترى من خلالها هذا الوجود، حتى فترت صبوات القلوب العامرة باليقين والأمل. .)
(وإذا كان (عميد الوجودية) قد زحم مؤلفاته بالمآسي الإنسانية التي يدعم بها مذهبه فإنه نسى الكثير من مسرات الإنسانية. وما الخير في فلسفة لا تقوم إلا على تذكر الشرور والآلام، وتغفل عن مباهج الإنسانية الروحية؛ فقطعت عليه لحنه:
(أتنكر الألم في الوجود أيها الراعي؟ قال: (أفتنكر أنت أن أكثر من النصف في الوجود خير وبركة وجمال؟ رويدك فإن (الوجودية) تنكر المستقبل المسطور في السماء، وتلقى به بين يدي الإنسان ليصنعه بنفسه
قلت: فإنه يسرف في التعبير، ويستخدم من الألفاظ كفيلسوف ما يؤيد به مذهبه، وإنه ليريد أن ينسب (الاختيار) إلى الإنسان، وأن يعقد أمله بالأعمال فإن لها عنده قيمتها وأثرها قال: فسنعود إذاً إلى حديث الاختيار أو الحبر، وما أعرف أن الفلسفة العربية قد قصرت في مناقشتها، ففيم إذاً هذه الضجة؟
لقد كتب ابن سينا عن الجوهر والوجود، يعاونه في ذلك عقل الفيلسوف وخبرة الطبيب. كان فيلسوفا وطبيبا يدرك النفس، كما يدرك المنزل الذي تسكن فيه، فآخى بين الروح والمادة، وزاوج بين المجهول والمعروف، واستقام من ذلك منهج قويم. . سكت الراعي قليلا ثم أقبل في الحديث وقد جرى شعاع من النور في أسارير وجهه: (إن للشرق طريقة حسنة في فهم الوجود. ولقد حل المشكلة هذا الهندي المبارك، وضرب تاغور على الحياة بسرادق من الخير والجمال، وأنكر وجود الشر فيها، وإذا كان له وجود فإنه عدم في عالم الحقيقة، إنه كالخطأ في عملية حسابية له وجود على الأوراق، ولا وجود له في الحقيقة.