للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

إنه كمن يحضر حفلا خاصا، ولا يحمل معه بطاقة الدعوة ممن أقام الحفل. إنه موجود بين المدعوين ولكنه وجود لا تعتبره الحقيقة. . ثم نظر إلى قائلا: (أترى ما قال تاغور هو الشعر، وهبه شعرا! ولكنه حسن جميل. .)

(لا يا سيدي إن لي زوجة جميلة تنتظرني، وإنها من مباهج الحياة عندى، فلم أنقب وأحصى ما لقيت من ألم في النهار، وأنا أعرف أن سروري بها يعدل أضعاف ما لقيت من ألم في النهار! وإن لي أصدقاء من الرعاة نسمر معا، ونتحدث عن مملكتنا المسحورة ذات المروج والجداول والطير. .)

(إن الرومانتسم في أدبنا الفرنسي لم تطبع بهذا الطابع الشاحب ذي المزاج الحزين إلا أن أطلق الشعراء تأملهم العميق في الوجود، وغالوا في التحليق بنفوسهم وهم يتحدثون إلى الطبيعة، حتى عبروا منطقة الجمال إلى مجاهل الفلسفة، وانتهوا في تأملهم إلى السؤال: من أين؟ وإلى أين؟ ولم؟ فلما عجزت عقولهم طوى العجز نفوسهم على ذواتها، فتألموا، واختلطت أفانين الجمال في شعرهم بنبرات من الحزن، تكشف عن نفس معذبة قبل أن تكشف عن نفس متأثرة حساسة.

سكت قليلا بينما كانت تخفق في جبينه طيوف من الحلم والذكريات، ومسمعته يردد في صوت خافت عبارة جينز: (لم يعد عند العلم قول يلقيه. . . وربما كان من الخير أن تقول إن العلم قد عدل عن إلقاء الأقوال، لأن نهر المعرفة قد انعطف في سيره مرات كثيرة بحيث لم يعد في مقدرتنا أن نحكم بالناحية التي فيها مصب النهر) قلت: فما بالك أيها الراعي تخلط بين العلوم الطبيعية وبين فلسفة الوجود، وأين هذا مما نحن فيه؟ قال: فهي إذاً كما قال تاغور: (الحياة حق، وحب، وخير وجمال). ثم نهض الراعي يتبعه كلبه وعنزاته، قلت: فأنى أريد أن أراك مرة أخرى. قال: فموعدنا قهوة الفلور، فقد يكون لنا حديث. قلت: ولم قهوة الفلور؟ فأشار إليها بصفارته قائلا: أما تراه يجلس في شرفتها المطلة على الخارج؟ فنظرت. . . فإذا.

جان بول سارتر

باريس

<<  <  ج:
ص:  >  >>