نصيب هذه الأبيات جميعها من الفكرة البعيدة أو النظرة المستقلة أو الشعور الصميم ضئيل. وماذا في قول أبي نواس إن العباس عباس والفضل فضل والربيع ربيع، إلا إنه ظرف وأحسن نظم تلك الأسماء مزدوجة في سلك البيت؟ وأي الناس لا يعبس إذا احتدم الوغى؟ ولو قال: عباس بسام لكان وصفه بالشجاعة التي لا تحفل بالموت المحدق. ثم ماذا من جديد في جمع البحتري بين الغصون والقدود وشكواه النوى والصدود، أو في تشبيه أبي تمام للطفلين بالبدرين الآفلين مرة وبالروضين المصوحين أخرى؟ إنما فضيلة هذا الشعر كله حسن اختيار اللفظ النقي وجمال الموسيقى ولطافة التقسيم والمقابلة، أما المعنى فلا عمق فيه ولا ابتكار
فالاحتفاء باللفظ ولو على حساب المعنى قد تزايد في العربية تدريجاً مع دخول الأدب طوره الفني، طور التدوين والتجويد، وتزايد الولع بالتسجيع والمطابقة وغيرهما من المحسنات اللفظية. وكاد الولع بالسجع عند الصاحب بن عباد فيما روي يبلغ حد الجنون، حتى قيل إنه عزل قاضياً بناحية يقال لها (قم) لأنه أراد أن يتم سجعة فقال: أيها القاضي بقم، قد عزلناك فقم. وتكلف في بعض أسفاره كما حدث عنه ابن العميد أن يذهب إلى قرية غامرة ذات ماء ملح يقال لها النوبهار لا لشيء إلا ليكتب إليه: كتابي هذا من النوبهار، يوم السبت نصف النهار، ومازال اللفظ يستبد باحتفال الأدباء ويطغى على المعنى، حتى ارتد الأدب في عصور التدهور زخرفاً لفظياً صرفاً، ولم يبق من المعنى إلا هذيان كهذيان المخالطين
فلا نبالغ إذا قلنا إن المعنى كان في أزهر عصور الأدب العربي يحتل المكان الثاني بعد اللفظ، وهذا واضح في أقوال النقاد. قال الآمدي في موازنته بين الطائيين:(وليس الشعر عند أهل العلم به إلا حسن التأني وقرب المأخذ واختيار الكلام ووضع الألفاظ في مواضعها. . . . فإن اتفق مع هذا معنى لطيف أو حكمة غريبة أو أدب حسن فذلك زائد في بهاء الكلام، وإن لم يتفق فقد قام الكلام بنفسه واستغنى عما سواه). وقال الخليلي في سياق حديث له أورده ياقوت في ترجمة الصاحب بن عباد:(الشاعر يطلب لفظاً حراً ومعنى بديعاً ونظماً حلواً وكلمة رشيقة ومثلاً سهلاً ووزناً مقبولاً)، فكل الاهتمام هنا موجه إلى لطافة النسج والتجويد لا إلى عمق الفكرة والشعور