كان الشعراء في الجاهلية وصدر الإسلام يرسلون القول على سجيته في نسج محكم يرمون به إلى بيان أفكارهم وشعورهم على أقصد سبيل وأقربه، فلما كان عهد التحضر والتثقف أحاطت بالأدب عوامل أدت إلى تقديم اللفظ على المعنى، منها فساد اللغة بمخالطة الأعاجم فاشتد الحرص على طلب اللغة الصحيحة وإتقان أساليب العرب الأقحاح وتقليد فحول المتقدمين. وزاد هذا الحرص شدة اشتغال الأعاجم أنفسهم بالأدب وجدهم في تحصيل لغة العرب ولسان الكتاب المنزل، وسبقهم في العلوم والتأليف، وتفاصحهم بمحاكاة أدب الجاهلية وصدر الإسلام، وتظاهرهم بالقدرة على التصرف في الألفاظ والتراكيب، فكان همهم صحة التعبير وبلاغته قبل صدق المعنى وعمقه
ومما زاد الأدباء انصرافاً إلى اللفظ وتجويده واختيار الأسلوب والافتتان في صياغته وتحويره، انتشار المدح والتكسب بالأدب، فإنه لما كانت الفضائل الإنسانية، ولاسيما تلك التي كانت مشهورة مطلوبة في المجتمع الإسلامي، محدودة معروفة، كان مجال القول فيها محدوداً ومجال الابتكار ضيقاً، فطلب الشعراء المداحون السعة في جانب اللفظ، يتأنقون في تزويقه وترصيعه، ويعتاضون عن الابتكار في المعاني بالأوزان الرشيقة والقوافي الرخيمة والتشبيهات اللبيقة، والتقسيم والمقابلة والسجع والتجنيس. وبهذه المحسنات البديعية - ما راق منها وما سمج - تحفل مدائح أبي نواس وأبي تمام والبحتري والمتنبي وابن الرومي، إذا جردت من زيناتها اللفظية لم يبق من نسيبها الاستهلالي ومدحها المغرق شئ ذو بال؛ من ذلك قول أبي تمام في مدح بعض القواد، ولا داعي لذكر اسم ذلك القائد أو صفته، فما كان لكل ذلك أي دخل في نظم مثل ذلك القصيد:
وجرد من آرائه حين أضرمت ... به الحرب حداً مثل حد المناصل
وسارت به بين القنابل والقنا ... عزائم كانت كالقنا والقنابل
وقد ظللت عقبان أعلامه ضحى ... بعقبان طير في الدماء نواهل
فكل هذه المعاني الدائرة حول شجاعة القائد وأمرائه التي تفوق الجيوش، وعزائمه التي تفل السيوف، والعقبان التي تتبع أعلامه لتنهل من دماء أعدائه، كل هذه المعاني مطروقة من قبل أبي تمام، مذكورة بعده في ميمية المتنبي المشهورة وغيره من مدائحه لسيف الدولة، ولا غرو فقد غدت أكثر معاني الأدب في أبواب المدح والهجاء والفخر والوصف والحكمة