ألامس القريب؟ ولو قد كان ذلك ضائري لقد هانت الحياة هواناً يجعلها أسخف وأخف وأضأل من أن أحفل بها اقل حفل. وكذلك عقدت عزمي على أن أضرب في مسالك الحياة حيث لا يعوقني وقار غث، ولا حنبلية متزمتة، وحيث أخبر الحياة على وجهها الذي هي عليه اليوم، لأعرف ما الذي ستكون عليه غداً. فأسرعت إلى حلقات الشباب ممن تجاوزوا العشرين وأشرفوا على الثلاثين، لأرى كيف يفكرون، وأنظر كيف يعملون، وأعرف ماذا يدبرون، وأعلم أين يستقبلون فرأيت ونظرت وعرفت وعلمت، فأشفقت وأملت، وخفت ورجوت، ولكني على ثقة من أن رحمة الله أوسع من أن تضيق بأمة ضلت في بيداء هذه الحياة، وقد خرجت تضرب في جوانبها مطموسة البصر إلا ما شاء الله.
كان من أهم ما شغلني أن اسمع ماذا يقولون عما يشغل الناس جميعاً في هذه الأيام، وأن أناقشهم فيما يقولون حتى أعرف خبئ نفوسهم وضمائرهم، وأن انقل ما استطعت شيئا مما يعتلج في هذه القلوب الشابة التي تريد الحياة الحرة الكريمة - أي تريد الفطرة التي فطر الله الناس عليها. وينبغي لكل صاحب قلم أن يحرص أشد الحرص على بيان ما يرى وما يراقب، فإن الجيل الماضي الذي صارت إلى يديه مقاليد الحكم في مصر غافل كل الغفلة عن الآمال والآلام التي تساور القلوب المصرية الشابة، وجاهل كل الجهل بالمولود الجديد الذي ولد في أرض مصر وشب ونشأ واستوى وكاد يبلغ مبالغ الرجال. يقول قائل الشباب:
(لقد خرجت مصر كلها، عالمها وجاهلها وغنيها وفقيرها، تنادي يوما ما باسم (الجلاء) وباسم (وحدة وادي النيل من منبعه إلى مصبه) وباسم البلد الواحد الذي هو (مصر والسودان). والشعوب أو الجماهير إن شئت، لا تعرف تفاصيل التاريخ ولا يهمها أن تعرف، بل هي تحس وتدرك وتتمنى وتسعى وتفعل كل شيء بالإلهام الذي تسدده الفطرة المستقيمة، وهذه الفطرة المستقيمة إذا نظرت إلى شيء واستوعبت لبه وطرحت نفايته ولقد نظر الشعب المصري بفطرته المستقيمة فرأى دولة طاغية تحتل سماء بلاده وأرضها وبحارها، بل تحتل أرزاقها المقسومة لأهلها من طعام وشراب، وتشاركها في نسمات الهواء بل تضيق عليها أيضا، وتحرمها النفحة بعد النفحة من هذه النسمات. وإذن فهي تمنع عنها ما هو مباح للوحوش في مساربها، والبهائم في مراعيها، والطير في مسابحها. وإذن فلابد أن تظفر يظفر به أدنى الخلائق وأهونها على الناس وعلى الله ربها وربهم.