وإذن فالشعب لن يعرف إلا كلمة واحدة هي:(الجلاء)، ولا ينادي إلا بشيء واحد هو:(اخرج من بلادي أيها الغاصب)، ولا يعرف من التاريخ ولا من السياسة ولا من البراعة والحذق في الدهاء إلا أن هذا غاصب واقف بالمرصاد يغتاله ويغتال أسباب حياته، ويرمي به في الرغام ليعيش هو في رغد وفي بحبوحة.
(قام الشعب فاسمع من كانت له أذنان، فإذا فئة من محترفي السياسة، ومن كل محتال عليم اللسان، ومن كل وجيه زينه ماله وغناه، ومن كل ذي صيت رفعته الأقدار بالحق أو بالباطل - قد هبوا جميعاً مع الشعب يقولون بمثل الذي يقول، فظن الشعب أنهم قد صدقوا بعد ماض كذب على التاريخ وعليهم، فرضى عنهم وأعانهم، ولكن لم يلبث إلا قليلا حتى رأى الوادي يموج عليه بالحيات والأفاعي والعقارب، وكل لداغ ونفاث وغدار، فانتبه فزعاً يطلب النجاة مما تورط فيه من ثقة بأقوام لم ينالوا يوماً ما ثقته، ولا حملهم أمانته، ولا رضى عن أعمالهم، ولا سلم إليهم مقاليده إلا مرغما أو مغرراً أو مخدوعاً. ثم بقى الشعب يترقب نهاية هذه المفاوضات العجيبة التي نالت فيها مصر كل شيء إلا الجلاء، ورأت كل عجيبة إلا عجيبة ارتحال الجيوش البريطانية ذات الزي العسكري أو الزي المدني).
ويقول قائل الشباب: (أنني لا أعرف تاريخ القضية المصرية على الوجه المعقد الذي يدلس به الساسة علينا، ويدخلون به المخافة والذعر في قلوبنا. لا اعرف من تاريخ هذه القضية إلا أن بلادي كانت توشك أن تكون قبيل ١٨٨٢ إحدى الدول العظمى في العالم، ثم إذا بأوربة كلها تتألب على هلاكها، وقتلها، والولوغ في دمها بتحريض دولة واحدة قد امتلأ قلبها جشعاً وحقداً. فلما ظفرت بما أرادت، ذادت كل دولة عن طريقها، ورمت مصر غدراً وخيانة فاحتلتها في سنة ١٨٨٢، وحسدتها الدول، وخافت مغبة احتلالها لأرض مصر، فتألبت عليها وطالبتها بالخروج منها، فوعدت أن تجلو عن أرض مصر جلاءً ناجزاً بعد أن تستقر الأمور ويتوطد سلطان العرش المزعزع! وقامت مصر تطالب بالجلاء فوعدت أيضا بالجلاء، وظلت بعد ذلك تعد وتعد وتعد وهي لا تمل وعداً ولا تحققه، إلى أن كانت سنة ١٩٥٦ فإذا هي تعلن الجلاء إعلاناً تاماً صريحاً بيناً واضحاً ناجزاً سريعاً، وتبدأ تجلو، ولكن من غرفة إلى غرفة، ومن سرير إلى سرير، ولكنها لا تخرج من باب الدار إلى لقم الطريق.