ألا تقدس الصليب، وتبارك اسم الناصري، أن أورشليم لنا إلى الأبد!!
ومشت معه إلى الكنيسة الكبرى، لتحضر الاحتفال بالنصر، وكان يحدثها في الطريق عن هؤلاء الوحوش الكافرين، ويصف لها فظاعة ديانتهم، وقسوة رجالهم، وكيف يأكلون لحوم أعدائهم، ويشربون دماءهم، ويصور لها ملكهم (صلاح الدين)، كما وصفه له الكهنة ورجال الكنيسة. فترجف أضالعها خوفاً وفزعاً من هذه الصورة المرعبة، وتضم ولدها إليها وتصلب وتستجير بالقديسين جميعاً، وبيسوع وبالعذراء، أن لا يجعلوا له سبيلاً إليها. . . وأن لا يروها وجهه المخيف. . .
وينقضي الاحتفال ويرجعون من الكنيسة، وهي تحس أن الدنيا قد ألقت إليهم مقاليد الأماني، وأن الدهر قد حكمهم فيه ونزل على حكمهم، وتستلقي على فراشها، وهي تداعب الآمال وتناجيها، حتى إذا بلغ بها التأميل أن ترى هذه البلاد كلها قد عادت للمسيح وأتباعه، ولم تبق في جنباتها منارة مسجد، ولم يعد يتردد في جوها أذان، وترى زوجها قد علا في المناصب حتى صار القائد المفرد؛ أغمضت عينيها على هذه الصورة الحلوة، وأخذتها معها في أحلامها. . . ونامت. . . ولكنها لم تجد إلا حلماً مزعجاً: لقد أحست كأن المدينة تتقلقل وتميد، وكأن حصونها تدك دكا، وتخر حجارتها، وتتهدم كما يتهدم عش عصفور ضعيف بضربة من جناح نسر كاسر، وخالطت سمعها أصوات العويل والبكاء تتخللها صرخات الرجال؛ فعلمت أنه ليس بحلم ولكنها الحقيقة، فوثبت تحمل ابنها، ونظرت إلى سرير زوجها فم تلفه في مكانه. . . فخرجت تسأل ما الخبر، فخبرت أن (صلاح الدين)، قد دار حول البلد حتى حط على جبل الزيتون، ثم صدم المدينة صدمة زلزلتها وهزتها هزاً، وكادت تقتلعها من آساسها، كما تقتلع الشجرة من الأرض الرخوة، ورماها بالمنجنيقات والعرادات، وقذفها بالنيران المشتعلة وهجم جنوده على الأسوار كالسيل المنحط، بل كألبسة الجحيم، لا تحرقهم نيراننا، ولا يقطع فيهم حديدنا، كأن المردة والشياطين كلها تقاتل معهم. . .
وكانت (مارييت) واثقة من قوة الدفاع، فالقدس بلد النصرانية لبثت في أيدي أهلها مائة سنة لا سنة ولا سنتين، وفي القدس ستون ألفاً هم خيرة أجناد الصليب، يقودهم (بليان) ويصرفهم البطريرك الأكبر، ولكن هذه المفاجأة روعتها، وأدخلت الشك إلى قلبها. . .