للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وطفقت الأخبار تصل إليها متعاقبة تترى، وكل خبر شر عليها من الذي قبله، وكلما مرت دقيقة سمعت نبأ جديداً عن شدة الهجوم ومضائه، وعن تحطم أدوات الدفاع، حتى جاءها الخبر بأن الرايات البيض قد رفعت على الأسوار وأنها قد عقدت الهدنة، على أن يخرج من شاء من المدينة في مدة أربعين يوماً، ومن أراد البقاء بقى في حكم صلاح الدين، وأن تفتح له المدينة أبوابها، وأن يدفع الرجل الذي يريد الخروج عشرة دنانير والمرأة خمسة والولد دينارين.

وتركت (مارييت) القوم في رجتهم وخرجت تفتش عن زوجها الحبيب، ومشت في الظلام تدور حول الأسوار، تنظر إلى الأبواب المفتحة، والجنود الظافرين يدخلون بالمشاعل والطبول، فتشد يدها على ولدها وتمضي متباعدة، حتى تبلغ ساحة القتال، فإذا هي تطأ على أعلام الصليبيين ممزقة مخرقة، مختلطة بجثث الأجناد مقطعة الأوصال، فامتلأت نفسها رهبة وخوفاً، وهمت بالعودة ولكنها غالبت النفس ومشت، فقد كانت تفتش عن زوجها، ولا تستطيع أن ترجع حتى تلقاه أو تعرف خبره، وكان حولها رجال ونساء كثيرون يبحثون كما تبحث، عن قريب أو صديق، وتمثلت ذلك الأمل الضخم: أمل (الوطن القومي) الصليبي، فألفته قد مات هو الآخر، وألقيت جثته. . . ورأت هذه الأرض قد عادت للقوم الكافرين بيسوع وأمه. . . وأحزنها ذلك كما أحزنها فقد زوجها، وتضاعفت به مصيبتها وحاولت أن تتعرف وجوه القتلى، من أحبابها وعشيرتها، فأخفقت وعجزت ولم تبصر شيئاً من الظلام ومما أصابهم من التبديل والتغيير. وتمثلت لها حياتها كلها، فإذا هي قد ذهبت وجاءت في مكانها حياة جديدة؛ حياة رعب وفزع وشقاء لا تعرف عنها شيئا، ولا تدري ولا يدري أحد من قومها كيف يكون مصيره في ظل الحكم الجديد، وذكرت ما قاله لها زوجها عن فظاعة هؤلاء الفاتحين، فأحست عند ذكر زوجها كأن قلبها قد أنتزع من صدرها، وطار في أثره، وفكرت فيه: أي أرض تقله؟ وأي سماء تظله؟ وهل هو قتيل قد تمزق جسمه الجميل، وأنتثرت ثناياه الرطاب، و. . . ولم تستطع المضي في هذه الصورة فأغمضت عينيها، وألقت عليهما غشاء من الدمع، وأحست كأن فؤادها يسيل حزناً عليه، فانكبت على الولد تقبله بشدة، وشغف، كأنها تصب في هذه القبل أحزانها وعواطفها، حتى أوجعت الطفل فصرخ يبكي. . . ورغبت في الفرار من هذه المشاهد كلها، ولم تقدر أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>