للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

المدنية، وقد يبدو له كما يبدو للناس جميعاً، أنه يكون بذلك قد أنزل به أفدح البلاء، ولكني لا أرى ذلك الرأي، فأهول به مصاباً هذا الشر الذي يقدم عليه أنيتس - بأن يقضي على حياة إنسان بغير حق. لست أكلمكم الآن - أيها الأثينيون - من أجل نفسي كما قد تظنون، ولكني من أجلكم، حتى لا تسيئوا إلى الله، أو تكفروا بنعمته بحكمكم علي، فليس يسيراً أن تجدوا لي ضريباً إذا قضيتم علي بالموت، وإن جاز أن أسوق إليكم هذا التشبيه المضحك، لقلت أني ضرب من الذباب الخبيث، أنزله الله على الأمة، التي هي بمثابة جواد لنبيل عظيم، ثقيل الحركة لضخامته، ولا بد له في حياته من حافز. أنا تلك الذبابة الخبيثة التي أرسلها الله إلى الأمة، فلا شاغل لي متى كنت وأنى كنت، إلا أن أثير نفوسكم بالإقناع والتأنيب، ولما كان من العسير أن تجدوا لي ضريباً فنصيحتي لكم أن تدخروا حياتي. نعم قد أكون مزعجكم كلما باغتكم فأيقظتكم من نعاسكم العميق، ولكم أن تأملوا، إذا ما صفعتموني صفعة الموت، كما ينصح أنيتس، - وما أهون ذلك عليكم - أن يهدأ لكم الرقاد لكم حياتكم، ما لم يبعث الله لكم ذبابة أخرى، إشفاقاً عليكم. إنما أنني جئتكم من عند الله فهذه آيته: لو كنت نكرة من الناس لما رضيت مطمئناً، بإهمال شؤون عيشي إهمالاً طوال تلك السنين، لأخصص نفسي لكم، فقد جئتكم واحداً فواحداً، شأن الوالد أو الأخ الأكبر، فأحملكم على الفضيلة حملاً، وليس ذلك ما عهدناه في طبيعة البشر. ولو كنت قد أفدت من ذلك أجراً أو جزاء لكان لذلك مدلول آخر، ولكن هل تجرؤ وقاحة المدعين أن تدعي أني قد أخذت أجراً أو سعيت إليه؟ أنهم لم يفعلوا، لأنهم لن يجدوا لذلك دليلاً. أما أنا فعندي ما يؤيد صحة ما أقول. وحسني بالفقر دليلاً.

يتبع

زكي نجيب محمود

<<  <  ج:
ص:  >  >>