إيمان المؤمنين، فهو أبدا يقابل في كل نفس ما تطغى به الحياة على أهلها، ولا عمل له إلا أن يحذف الزيادات الضارة بالإنسان من بيئته، وبالبيئة من إنسانها، وهو بهذا حائل في كل مجتمع بين أن تنقلب أسباب السمو العقلي فتعود من أسباب الدناءة والخسة.
وإنما محل الإيمان من أهله محل الحكومة ممن تحكمهم؛ فهو الأمر والنهي بلغة الدم والعصب، وهذه الغايات التي تتألف من أجلها الحكومات كأمن الناس ونظامهم وسعادتهم هي أنفسها محكومة بمسائل تأتي من ورائها في طبائع الناس وعاداتهم ومعايشهم ومصالحهم، فإن لم تكن في النفوس من الدين أصول تأمر وتحكم، وفي الطباع من اليقين أصول تستجيب وتخضع، رجعت الحكومة في الناس أداة مسلطة لا تغنى كبير غناء في الخير والشر. إذ يحتاج الخير أبداً إلى قوتها تحميه، ويحتال الشر أبداً على قوتها تستنقذه، ومتى لم يكن الخير إلا بالقوة فاحتياجه إليها شر، ومتى لم يكف الشر عن القوة فاحتيالها عليها شر مثله، فإذا تضعضعت من الأديان هذه الدعائم الراسية، وفرط من الإنسانية هذا الفارط الذي ليس في الأرض كفاء منه - لم تجد حسنة في حكومة من الحكومات إلا معها من طبيعتها سيئة، ولم تجد سيئة إلا هي سيئتان، فلن تكون الحياة حينئذ إلا تعقيداً اشد التعقيد من طغيان القادرين عليها بالمال والغنى، ومن حقد العاجزين عنها بالفقر والحاجة.
والغني القادر على متع الحياة ولذاتها هو دائماً في فلسفة العاجز قادر بلا قدرة، كما أن الفقير الضعيف هو دائماً عند نفسه عاجز بلا عجز، ولا أدل على ذلك من تعبيرهم عن معناه بالكلمة التي تشبه أن تكون هي أيضاً معنى بلا معنى. . . وهي الحظ. فلا بد للناس من الحدود التي تبنى بين كل ضدين من أحوال الإنسانية جداراً يعطف نفساً على نفس بالرحمة، ويرد قوة عن قوة بالصبر، ويكف عادية عن عادية بالتقوى، ويحقق عوامل التوازن بين أسباب الاضطراب في الجماعات المتصادمة ليقر كل مضطرب في حيز إن لم يمسكه فيثبت فيه لم يفلته فيعدو على سواه. فإذا عملت المدنية على هدم هذه الحدود، وتركت قوة الإيجاب في طبيعة الحياة بغير قوة قلبية سليمة من الإيمان في طبيعة النفس، كشفت للإنسان عيوبه ببلاغة من تعبير شهواته فزادتها رسوخاً فيه كما نقول للص: إنك لتسرق ستصبح غنياً تمر يدك في الذهب تنفق وتستمتع على ما تشتهي. فما يراك قلت له لا تكن لصا وتعفف، بل قلت له كن غنيا واستمتع. ويومئذ يغبر البؤس ويقشعر الفقر كما