وفي الجلسة الأولى جرى بيني وبينه حديث في السياسة ونقاش في النحو تبين من خلاله أن الجل طيب القلب، وآفة الطيبة أنها تصيب أحيانا بالغفلة فتوقع صاحبها في الزهو وتورطه في الدعوى؛ فهو يفخر بأنه خطأ قول الشنقيطي في اللغة، وزيف رأي اليازجي في النقد؟ ويدعي أن مصطفى كامل كان يستشيره في خطبه قبل أن تلقى: وأن سعد باشا كان يستشيره في بياناته قبل أن تنشر.
وفي الجلسات الأخر علمت أن الرجل لم يتم التعليم الابتدائي، وأنه بحث عن مرتزق لا يضر به الجهل فلم يجد غير التعليم والصحافة، فاختار التعليم في المدارس الابتدائية، وتخصص في تدريس اللغة العربية، فكان يعلمها مشاهرة في المدرسة بجنيه، وفي البيت بريال. ومن هذا اليسير ينفق على كسوته وقهوته وتبغه، ثم يعتمد فيما جاوز ذلك على مرتب اخيه، وهو موظف بالابتدائية في وزارة المالية، وعلى تدبير أخته وهي تخيط في بيتها لبعض البيوت التجارية. وهو وهذا الأخ وهذه الأخت، هم الأقاليم الثلاثة التي تتألف منها هذه الأسرة المسيحية الطيبة؛ ففهمي هو الأب، وشحاتة هو الابن، وعابدة هي روح القدس! ثلاث أرباب وثلاثة عبيد، كل منهم لأخويه إله بالاحترام وعبد بالحب. وثلاثتهم يعيشون على الإيثار والتضحية؛ فالأخ الكبير قد نيف على الأربعين ولا يريد أن يتزوج لأن أخته لا تزال آنسة! والأخ الصغير قد أربى على الخامسة والثلاثين ولا يبغي الزواج لأن أخاه لا يزال أعزب، والأخت قد هدفت للسادسة والعشرين، وهي تدفع الخطاب عن يديها لأنها لا تحب أن تترك أخويها أعزبين.
وكل أخ يؤثر أخويه على نفسه؛ فالمعلم فهمي يحنو على عايدة وشحاتة حنو الأب الوالد الحدب: يقوم عنهما بشؤون البيت مع الناس، ويجلب لهما حاجة المطبخ من السوق، ويقبل مكرها أن يخصه أخواه ببعض المال لأنه بكر الأبوين ومظهر الأسرة
وشحاتة أفندي يؤدي مرتبه إلى أخته أول كل شهر فلا يأخذ منه إلا شهرية الحلاق. وماذا يصنع بالنقود؟ إنه لا يركب الترام لأنه لديه قدمين قويين تحملانه إلى الديوان ثم إلى البيت، وإنه لا يشتري الطعام لأنه يأخذ فطوره معه كل صباح: رغيفا في منديل، وطعمية في علبة، أو ملوخية في قارورة. . . فإذا رجع من عمله، تولى كنس الغرف ونفض الأثاث