وغسل الآنية. ثم يجلس بعد ذلك إلى أخته فيدير لها آلة الخياطة، أو يرفه عنها بأحاديث المدينة، أو يذهب إلى التجار بالمخيط ليعود من عندهم بالقماش.
أما الآنسة عايدة فتشبل على العزبين أشبال الأم العطوف: تدبر لهما المنزل، فتطهي وتغسل وتكوي؛ وتدبر منهما الجسم، فتقي وتعالج وتمرض؛ ثم لا تكلفهما بعد لباس البيت إلا فستانا بسيطا كل عام تذهب به أيام الأحد إلى القداس.
وكان مرض الواحد مرض الثلاثة، إذا شكا أحدهم علة شكا الآخران ألمهما معه. وقد حرص المعلم فهمي على أن يقيس حرارة أخويه إذا لحظ عليهما فتورا أو سمع منهما شكوى. وفي ذات ليلة من ليالي الشتاء طرق علي الباب في أخريات الليل، فانتبهت فزعا وفتحت فإذا هو ينتفض انتفاض المحموم وينشج نشيج الطفل. فقلت له: خير يا صديقي، ما الذي يبكيك؟ فقال: أختي في نزاع الروح، وإن حرارتها ثلاثة وأربعون درجة وقد بعثت أخي في طلب الطبيب القريب؛ فلما أخبره بأن حرارتها ثلاث وأربعون أغلق الباب في وجهه وهو يصيح: اذهب يا مجنون إلى الحانوتي ولا تضع وقتك!
قال هذا المعلم فهمي وهو يجذب يدي حتى دخل بي إلى غرفة المريضة، فوجدتها راقدة في سريرها العالي، لحافها دائر على خصرها، ويداه مشبوكتان على صدرها، ونفسها يتردد هادئا كنفس الطفل، ووجهها يشرق نديا كوجه الصبح. وكان على مقربة من سريرها منضدة عليها مصباح كبير من طراز المصابيح التي كانت تضيء الصوارين في الأعراس والمآتم قبل أن تعم الكهرباء، فلما وقفت إلى جانب سريرها جست يدها ومسست جبينها وجدت حرارتها توشك أن تكون طبيعية؛ ولكن أخاها أراني الميزان فوجدت زئبقة على الآخر. فنفضت الميزان ووضعته في فم المريضة المستسلمة ثم قراءته فإذا هو سبعة وثلاثون درجة ونصف! فلما نطقت بالرقم دبت الحياة في عايدة ففتحت عينيها، وعاد الهدوء إلى فهمي فكف دمعه، وأخذ شحاتة الدهش فغفر فاه، وسرى النشاط من الغرفة إلى سائر البيت فقفزت من تحت الكنبة أرنب، وقامت من فوق المائدة دجاجة، وتمطت من بين الفرش هرة. ولكن المعلم فهمي أراد أن يتأكد مما قلت، فأخذ الميزان وأدناه من المصباح لضعف بصره، ثم أخذ يقلبه وينظر، ثم يقلبه وينظر، حتى مضى على الميزان دقيقتان بجانب المصباح المشتعل، ثم اهتدى أخيرا غلى الزئبق الصاعد فإذا هو في آخر الطرف