للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الشيء من ذلك، وضاقت له صدورهم، وكأنهم نظروا إلى هؤلاء الذين كانوا بالأمس أعداءهم، والذين أذاقوا رسول الله وأذاقوهم ألوان العذاب وقد أصبحوا فيما يوم وليلة يتمتعون بهذا العطف النبوي الكريم حتى ليزيد حظهم عند القسم على حظوظ السابقين من المؤمنين، فلم تتضح عندهم الحكمة في هذا الصنيع، ومشى بعضهم إلى بعض يتهامسون ويتساءلون، وقال قائل منهم لصاحبه (لقد لقي رسول الله قومه!) يريد أن عاطفته لقومه وعشيرته قد غلبته حتى أنسته سابقة الأنصار، وفضل الأنصار.

كان من الممكن أن تستشري هذه الموجدة في نفوس الأنصار، وكان من الممكن أن تغذيها الطبيعة البشرية بغذائها حتى يستفحل داؤها، وكان من الممكن - على الزمن - أن تمرض هذه القلوب الصافية المؤمنة التي تلقت الإسلام غضاً فتعهدته حتى نما وترعرع وأظهره الله وأتم به النعمة. كان من الممكن أن يكون ذلك كله لو كان أحد ما مكان (محمد) ولو كانت بيئة ما غير بيئة الإيمان والحب والثقة. ولكن الله ألهم سعد بن عبادة الأنصاري أن يبلغ النبي صلى الله عليه وسلم قالة الأنصار، فلما سمعها بادر بجمعهم وقال لهم: يا معشر الأنصار. ما قالة بلغتني عنكم وجدة وجدتموها في أنفسكم؟ ألم آتكم ضُلاَّلاً فهداكم الله، وعالة فأغناكم الله، وأعداء فألّف الله بين قلوبكم؟ قالوا: بلى. الله ورسوله أمنُّ وأفضل. قال: ألا تجيبونني يا معشر الأنصار؟ قالوا: بماذا نجيبك؟ لله ولرسوله المنُّ والفضل! قال: أما والله لو شئتم لقلتم فلصدقتم ولصُدِّقتم: أتيتنا مكذباً فصدَّقناك، ومخذولاً فنصرناك، وطريداً فآويناك، وعائلاً فآسيناك. أوجدتم يا معشر الأنصار في لُعَاعة من الدنيا تألّفتُ بها قوماً ليسلموا ووكلتكم إلى إسلامكم؟ ألا ترضون يا معشر الأنصار أن يذهب الناس بالشاة والبعير وترجعوا برسول الله إلى رحالكم؟! فوالذي نفس محمد بيده لولا الهجرة لكنت امرأ من الأنصار. ولو سلكت الناس شِعباً وسلكت الأنصار شعباً لسلكت شعب الأنصار. اللهم أرحم الأنصار وأبناء الأنصار، وأبناء أبناء الأنصار!

فلما انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم من كلمته تأثر بها الأنصار حتى بكوا وقالوا: رضينا برسول الله قِسما وحظاً؟

هذه هي السياسة الرشيدة التي تستل ما في النفوس من موجدة، وتتلافى بوادر الشر فتحسمه قبل أن يتفاقم. وإن هذا الكلام الذي ألقاه النبي في الأنصار ليحتاج إلى عالم قدير

<<  <  ج:
ص:  >  >>