لاذع النكتة؛ ما جابه إنساناً غلا غلبه، ولا ناقشه إلا أقحمه، ولا جادله إلا ظهر عليه.
ولا ريب أن لسماعه من الأصمعي وأبي عبيدة والأنصاري والعتبى وأبي عاصم النبيل الذين سبق أن ذكرنا أسمائهم فضلا كبيراً على فصاحته وبلاغته، ولسنه وظرفته؛ وعذوبة شعره وسهولة نثره، وحسن اختياره، في رواية أخباره!
ولقد كانت حياة هذا الظريف حافلة بكل مدهش وغريب، فإذا كان قد عاصر المأمون والمعتصم والواثق، فأنه عاصر بعد عماه المتوكل الذي دام أربعة عشر عاماً فأمسى أبو العيناء في السادس والخمسين، ثم عاصر ابنه الذي دام ستة أشهر فأتم أبو العيناء السابع والخمسين، ثم المستعين الذي خلع بعد أن بقى أربعة أعوام فصار أبو العيناء في الواحد والستين، ثم المعتز الذي خلع نفسه بعد ثلاثة أعوام فأصبح أبو العيناء في الرابع والستين، ثم المهتدي الذي خلع بعد أقل من عام فأضحى أبو العيناء في الخامس والستين، ثم المعتمد الذي ظل ثلاثة وعشرين عاماً فأشرف أبو العيناء على الثامن والثمانين، ثم المفوض الذي خلع نفسه في السنة ذاتها، وأخيراً حضر ثلاث سنوات أو أربعاً من خلافة المعتضد توفى على أثرها سنة اثنتين وثمانين ومائتين كما قال الدارقطني، أو سنة ثلاث وثمانين ومائتين كما قال أبو جعفر بن أبي العيناء. ولا يأس إذا رجحنا رواية الابن في هذا المقام. وهكذا فقد عاش أبو العيناء ثلاثة وتسعين عاماً، أو قل إنه عاش قرناً إلا قليلاً!
وما بهذا بالعمر القصير. . . فقد تقلبت في حياة أبي العيناء عصور كثيرة فرأى في خلالها تعز وتذل، وحكومات تحيا وتموت، وأبطالا يسوقون الناس غلى الموت ثم يساقون إلى الموت، ورجالا أكبروا النظام وبنوا، جماعات استحبوا الفوضى فهدموا وحطموا: وكان لهذه المشاهد في نفسه آثار كانت تتفاوت قوة وضعفاً، وإيجاباً وسلباً، وغموضاً ووضوحاً فتعلم الثقة بنفسه حين ألقى ثقته بالناس لا تنفعه، ورأى بهجة الدنيا لا تستحق العناء لما قاسها بمصائبها التي تكدر صفوها، فإذا هو يبكي على حرمانه، ثم يزهد زهادة الفقير الضعيف، ثم يتشكى إلى نفسه، وينشد من صميم قلبه: