وإن مجتمعاً خالياً من روح الثقة بين أفراده وجماعاته، قد سدت الطرق دون معالم الخيرات فيه، حتى أبطأ بالحسيب حسبه حين لم يسرع، به عمله وجنى على الأديب أدبه حين كسدت بضاعته، ولم يرفع المتين دينه حين ضعفت مكانته، ولم يعز الفاضل خلقه حين ضاعت كرامته - إن مجتمعاً هذه بعض أوصافه ليس بالمستقر الصالح، ولا المثابة الآمنة.
لكن أبا العيناء - على سخريته بمجتمعه، واستخفافه بأهل زمانه - قد أدرك الحقيقة التي لا تخفى على الحكيم، وعرف كثيراً من أسرار القلوب وخبايا النفوس التي لا تكشفها إلا التجارب، فوازن بين فصاحة الفصحاء وسوء حالهم، وبين دراهم الأغنياء ونعومة عيشهم، فعصر الألم فلبه وأنطق لسانه، ففاض شعره بالحسرة وهو يقول:
من كان يملك درهمين تعلمت ... شفتاه أنواع الكلام فقالا
وتقدم الفصحاء فاستمعوا له ... ورأيته بين الورى مختالا
لولا دراهمه التي في كيسه ... لرأيته شر البرية حالا
إن الغني إذا تكلم كاذباً ... قالوا صدقت وما نطقت محالا
وإذا الفقير أصاب قالوا لم تصب ... وكذبت يا هذا وقلت ضلالا
إن الدراهم في المواطن كلها ... تكسو الرجال مهابة وجلالا
فهي اللسان لمن أراد فصاحة ... وهي السلاح لمن أراد قتالا
ولما آمن الدراهم هي لسان الفصيح، وسلاح المقاتل، بحث عنها فلم يجدها، أو قل إنه وجد القليل منها، فأخذ يعزى نفسه بالنكتة اللاذعة، والداعبة الموفقة، والرواية الطريفة، يدخل بها السرور على قلبه المحزون وعلى قلوب جلسائه ومعارفه، حتى اشتهر أمره بين أهل عصره، وذاع صيته بين أعلى الطبقات وأوسطها وأدناها، فنادم بعض الخلفاء والأمراء والوزراء، كما حاور الأدباء والشعراء والظرفاء، ثم ساير العامة العاديين: فكان الجميع معه على أمرهم مغلوبين!. . .
- ٤ -
ويبدو أن المتوكل كان أشد الخلفاء رغبة في اتخاذ أبي العيناء نديماً، حتى قال ذات مرة لجلسائه:(لولا أنه ضرير لنادمناه) فلمما بلغه ذلك قال: أن أعفاني من رؤية الأهلة ونقش