للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الفصوص صلحت للمنادمة) هذه رواية معجم الأدباء، وتجد مثلها في تاريخ بغداد (ص١٧٤ ج٣). وكان هذا الجواب باعثاً على إرسال المتوكل في طلبه. فلما دخل عليه في قصره المعروف بالجعفري سنة ست وأربعين ومائتين قال له: (ما تقول في دارنا هذه؟ فقال أبو العيناء: أن الناس بنوا الدور في الدني، وأنت بنيت الدنيا في دارك: فاستحسن كلامه ثم قال له: كيف شربك للخمر؟ قال: أعجز عن قليله، وأفتضح عند كثيره. فقال له: دع هذا عنك ونادمنا. فقال: أنا رجل مكفوف، وكل من في مجلسك يخدمك وأنا محتاج أن أخدم. ولست أمن من أن تنظر إليَّ بعين راض وقلبك على غضبان، أو بعين غضبان وقلبك راض، ومتى لم أميز بين هذين هلكت؛ فأختار العافية على التعرض للبلاء. فقال: بلغني عنك بذاء في لسانك. . . فقال: يا أمير المؤمنين، قد مدح الله تعالى وذم فقال (نعم العبد إنه أواب) وقال عزوجل (هماز مشاء بنميم) وقال الشاعر:

إذا أنا بالمعروف ... ولم أشتم النكس اللئيم المذمما

ففيم عرفت الخير والشر باسمه ... وشق لي الله المسامع والفما؟

ما أحسنه من تخلص!

يعتذر أبو العيناء عن خبث لسانه بأنه لا يشتم إلا اللئيم، ولا يهجو إلا الذميم، كما أنه لا يثنى إلا على صاحب المعروف، ولا يمدح إلا الحقيق بالمدح، كأنه يريد أن يقنع السامع بصدقه في شتمه وهجائه، وفي مدحه وثنائه؛ لأنه يذكرك بأن معرفة الشر باسمه، أو الخير برسمه، تدل على تفكير ساذج لا يعدو ظواهر الأمور، ولصاحبه أذن لا يسمع بها، ولسان لا ينطق به: لأن الإنسان الذي لا يعبر عما يسمع وتفهَّم ملتو بيانه، مائل ميزانه.

ولنا - أمام هذا العرض الواضح - أن نقرر أن أبا العيناء كان شديد الصراحة في التعبير عن رأيه الخاص، يحب مجابهة كل إنسان بما يلمس فيه من عيب، وللعيب مقياس شخصي عنده لا يوافقه عليه كثير من الناس. ويبرز لنا هذا المعنى من نفسه جوابه الشافي لمن سأله: (إلى متى تمدح الناس وتهجوهم؟ قال: مادام المحسن يحسن، ومادام المسئ يسئوأعوذ بالله أن أكون كالعقرب تلسع النبي والذمي!).

وقد تبلغ به الصراحة مبلغاً يحمله على الاعتراف بما يؤذيه، ولا سيما إذا غلبته على أمره. فاه ساعتئذ ينساق مع ما يجيش في نفسه، ومع ما يلذ لسماعه، ولو اتهم برقة في دينه،

<<  <  ج:
ص:  >  >>