للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

وأخيراً، أخذ نور المصابيح الزاهر يشحب قليلاً فقليلا، وستر الظلام الصفيق يرق عن جوانب القطار شيئاً فشيئا، وأنفاس الفجر الندية تخلص إلي من خلال النوافذ، وكنا حينئذ نمر على الجسر الحديدي (بنجع حمادي)، ففتحت الشباك القريب وأرسلت طرفي الكليل في شمال الوادي، فرأيت رءوس الشجر الرفيفة، وذوائب النخل الرفيعة، طافية في سيل من الضوء المشوب المبهم، وتبينت القرى الجاثمة على الضفاف الخضر تستيقظ مطلولة الجنبات مع الطبيعة، والصبح الوليد يهتك عن مهده الوردي كلَّة السحر الداكنة، وأبصرت من وراء (قنا) خطاً من ذائب المرجان قد ارتسم على قمم الجبال اللوبية، ثم أخذ ينتشر رويداً على الظلال المتخلفة من بقايا الليل حتى غمر الوادي، فاستبانت في سهوله الخصيبة حقول القمح والفول والعدس يكللها الطل، ويهفو فوقها رقيق الضباب.

أشرقت الشمس علينا كما كانت تشرق منذ آلاف السنين على سيتي ورمسيس، فهي وحدها المخلوق الذي شهد ضخامة الماضي، ويشهد الآن ضآلة الحاضر! فليت شعري ماذا تقول ذكاء في هؤلاء الأقزام الذين يحجبون اليوم (طيبة) مختالين على مركب ليس في صنعه قسط من حديد أو خشب؟ ماذا تقول ذكاء وقد رأت ملوكنا العماليق وهم في طفولة البشرية ينقلون قطع الجبال من أدنى الشمال إلى أقصى الشلال على عجلات وآلات من خلق عقولهم وصنع أيديهم، ثم ترانا معشر الأعقاب نلوك الفخر أمام الغربيين بعظمة الأقدمين، ونتبجح أمام الأقدمين بعبقرية الغربيين، فنحن كخلفة الدوحة العتيقة تنبت رخوة على جوانب الجذر الثابت، ثم يقعد بها الوهن عن مطاولة الجذع، فلا هي في رسوخ الأصل وقوته، ولا هي في سموق الفرع وإشرافه!!

لا يكاد الصعيد يختلف اليوم عما عهده الفراعين منذ أربعة آلاف سنة! فالشمس المعبودة هي الشمس، والنيل المقدس هو النيل، والقمح الذي خزنه (يوسف) هو القمح، وجوارح الطير التي تحوم فوق ساحلي النهر هي بأنواعها وأشكالها وألوانها التي كانت تحلق في أجواء (طيبة)، لأن الحيوان والنبات قلما ينالهما التغير. أما الذي نال منه الحدثان، وغير من حاله الزمان، فهو هذا الإنسان المسكين، فإنسان النيل لم يعد ذلك الذي قارع الدهر، وصارع البلى، وحاول الخلود، وقدس القوة، وأخضع العراق والشام وفلسطين والسودان والحبشة، وإنما أصبح من فعل القرون وإلحاح الجور شيئاً من المتاع تابعاً للأرض، يُملك

<<  <  ج:
ص:  >  >>