بالمطالبة الفاضحة. ففزعت إلى وزارة المعارف تسألها أن تسرع في أداء ما لدى زوجها من الحق؛ فأعطتها بعد لأي مكافئتها على السنين السبع التي قضاها في مدارسها. فقد كان من قبل مدرساً بأحد مجالس المديريات، فلم يجتمع له الزمن القانوني لاستحقاق ورثته جزءاً من المال على سبيل المعاش. وذهب الغرماء بالمكافأة، وبقيت الزوجة وحماتها وبنوها السبعة في غشية الهم وصدمة الواقع، يتلمسون نفساً من الكرب أو شعاعاً من الرجاء يطالعهم من قريب أو صديق فلم ينالوا. وتذكرت الأيم المسكينة أن زوجها كان يعلّم ابن وزير الزراعة فلاذت به تسأله أن يساعدها بجاهه على تربية أولادها في مدارس الوزارة، فتخلص منها بخمسة جنيهات ثم أغلق من دونها بابه
كان بين الزوجين ماتة قرابة؛ وكانت أسرتهما من الأسر الريفية التي ألوى بها الدهر المديل، فلم يبقى منها إلا عجائز وأيامى يعشن على معونة الأستاذ الفقيد، ثم موظف صعلوك في شركة سنجر لم تره الأرملة إلا يوم الجنازة. وقد حملها بغروره على أن تنفق خمسين جنيهاً على ليلة المأتم، لأن أقطاب التعليم وأعيان الأدب لا يمشون إلا على الطنافس الفارسية، ولا يجلسون إلا على الكراسي الذهبية!
وكان للفتاة الكبرى خاطب غني من أصحاب أبيها، فلما وقف على حال الأسرة بعد كاسبها أنقطع خبره فكأنما غابا معاً في قبر واحد! وعجزت الأم عن دفع المصروفات المدرسية لبنيها وبناتها، فظلوا حولها في البيت يندبون الميت، ويبكون الحي، ويسدلون على مأساتهم الفاجعة ستاراً من الصمت والعزلة حذر الشامث. فما كان بابهم ينفتح إلا لتجار الأثاث القديم يخرجون منه بصفقة بعد صفقة من الفرش أو المتاع
ولبثوا على هذه الحال ستة أشهر لم يدفعوا عنها شيئاً من كراء المسكن للحاج محمود، حتى أدركته عليهم شفقة المؤمن، فنزل لهم عن الدَّين ونقلهم إلى غرفتين على سطح من سطوح منازله الكُثْر يسكنونها من غير أجرة
وتركنا حي شبرا منذ خمس سنين فلم نعد نعلم من حال هذه الأسرة المنكوبة شيئاً
وفي صباح أمس الأول كنت في ميدان باب الحديد، فتقدم إليّ صبي من باعة الصحف يحييني وهو يبتسم. فتفرسته فإذا هو إبراهيم أوسط الأخوة الثلاثة! فصحت به مستطار القلب من دهشة المفاجأة: