وكنتُ أجدهُ فيما يتوقَّدُ علىَّ من الكُربِ كالغمامة الغادية: ظِلٌّ ورِيٌّ، ثم لا يزال بي حتى أَنام إلى دعَابته، فإذا آلاميٍ تطوف بي من بعيدٍ كأنها أَحلام، بعد أن كانت في دمي جمرة تتلذّع. ولقد أكون مما أستعصي عليه بأحزاني، فأريدُ أذهب عنه نافراً أبتغي أن أعكُفَ على آلامي كما يعكُفُ العابد على بُدّه، فما هو إلا أن يأخذَ ينشد:
مَتى ترَعْينيْ مالكٍ وجِرَانه ... وجنبَيْه، تعْلَم أنه غيرُ ثائِر
حِضَجْرٌ، كأمَّ التَّوْأمَينِ توكَلتْ ... على مَرْفقَيْها مسْتهِلَّةَ عاِشر
فينشد أغرب إنشادٍ وأعجبه، ولا يزال يجرك ويشير ويمثَّل، فوالله ما من ساعة أنشدنيها هذين البيتين، وأقبل عليَّ يريني ما يأتي به، إلا نبع الضحك من قبلي دفعة حتى ما أتماسك معه
فكيف به اليوم وقد سكن كأنه دمعة خافتة تئنُّ تحت الزفراتِ، يمشي إلى كأن أيامه تطوفُ به ثاكلاتٍ نائحات، يغض طرفه كأنما يمسك عبرة همَّتْ من هاربة من الأسر، يطأطأ هامته كأنما يقول للزمن: تخطَّ، فلم يبق بيني وبينك عَملٌ أيها الجبَّار، يستكين حتى لأخاله يجمعُ أطراف نفسه لا يزاحمُ أفراح الناس بما يريد أن يتنفَّسَ من أحزانِه
لك الله يا ابن أبي عتيق! لقد كانتْ لك كالجدول النَّامي
النمير: هو سرٌّ الأرض، وسرُّ العود، وسرُّ الزُّهر، وسرُّ العطر؛ فلما جَفَتْ عنك همدت أرضك، وظمئ عودك، وصوَّحَ زَهرك، وتهارب عطرُك. . . زوجةٌ كانت تستودع روحك مع كل شارق، ما تتملَّى به أفراحِك ولهوك ودُعابتك، فتخرج إلى أحبابك لتحمل عنهم همومهم فتغرقها في ذلك البحر الخِضَمَّ من الفرح والابتسام والرضى!
ودخل ابن أبي عتيق فسلَّم سلام الذاهل المتوَله، ثم جلس كأنما هو يلقي عبئاً ثقيلاً كان يمشي به، ثم نَظر في عينيَّ بعينين ندَّيتين ترى في غورْهما ذلك التنُّور المتضرمَّ يتقاذف شُعَلَه في ثنايا النفس وفي مسارب العاطفة. وأدام النَّظر لا يرفعه عني كأنما يقول: انظرْ واعرفْ ولكن لا تتكلَّم! فأشهد أني افتقدتُ ما أقول أعزَّيه به أو أرفه عنه، بل كأنما أفرغ بعينيه في عينيَّ من أحزانه، حتى أراني أجد مسَّ النار في صدري وهي تستعر ولكني خفتُ على صاحبي ورفيقي إن أنا سكتُّ له، أن أكون قد خلَّيت بينه وبين همه، وإن أحدنا لو قَعَد يمارسُ أحزانه يوماً بعد يوم لصرعتْه. أجل وإن الحزن ليهجُم على النفس كالَسُبع