وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مُقْتَدون. قال أولو جئتكم بأهدى مماوجدتم عليه آباءَكم).
فانظر كيف صور ما نسميه اليوم بالجمود في قوله (حسبُنا) وكيف صور ما نسميه بالرجعية في قوله (نتَّبع). وتأمل كيف رفض الجمود والرجعية معاً في العلم والعقل والهداية أي في آثارها من العلوم والمخترعات والفضائل الإنسانية، وكيف أبطل في تلك الثلاث الاحتجاج بالماضي بهذا الأسلوب الدقيق العالي وهو قوله في كل آية: أَوَلوْ، لم يغيرها بل كررها بلفظها أربع مرات.
فالمعجز هنا مجيء الآيات بهذه الصورة المنطقية لإسقاط حجتهم ونفي معنى التقديس عن الماضي فيهن إذا كان العلم دائم التغير، وكان العقل دائم التجديد والإبداع، وكانت الهداية شديدة على الطبيعة الحيوانية التي هي ماضي النفس فكأنها جديدة على النفس عند كل شهوة.
إن الإنسان بماضيه وحاضره كأنه مقسوم إلى قسمين يقول أحدهما: أريد أن أكون، ويقول الآخر: أنا قد كنت. فالإسلام بهذه الآيات قد أوجب وزن الكلمتين في كل زمن بما هو الأصح، وبما هو الأنفع، وبما هو الأهدى؛ وباشتراطه الهداية في جميعها أشار إلى أن الكمال النفسي للفرد يجب أن يكون مرتبطاً بالكمال الإنساني للجنس؛ وهذا معنى عجيب، وأعجب منه ما ترى من أن الإسلام قد أصلح فكرة الماضي فنقلها من معنى الآباء والأجداد للناس إلى المعاني التي هي كالآباء والأجداد لإنسانية الناس. والأخذ (بالأهدى) في اجتماع أمة من الأمم إنما هو بعينه ناموس الترقي والتطور.
ومن أدق الأسرار قوله:(إنا وجدنا آباءنا على أُمَّة). فكلمة (أمَّة) هذه لم يعرفها أحد على حقيقتها، ولم تفسرها إلا علوم هذا الزمن، فهي المشاعر النفسية التي يتكون منها مزاج الشعب وفيها يستقر الماضي؛ كأن الآية قد عبّرت بآخر ما انتهى إليه علماء النفس من أن الإنسان ابن أبويه وابن شعبه أيضاً. فالتعصب في الإسلام هو للعلم النافع وللمجد الصحيح وللهداية الباعثة على الكمال؛ وتعصب الجيل لمثل هذا في ماضيه هو في اسمه تعصب، غير أنه في معناه إنما هو العمل لتسليم مجد الأمة إلى الجيل التالي.